لايستطيع منصف.. مهما يكن مدي اختلاف موقعه الفكري عن مذهب المعتزلة أصولا أو فروعا أن يغمطهم حقهم من الإجلال والتقدير لحماستهم المتوقدة في الدفاع عن الإسلام دفاعا حارا. لم يستخدموا فيه سوي سلاح العقل, فمن طبائع الأمور أنه حين ينازل المرء خصما قوي الشكيمة أن يكون محكوما بالضرورة بطبيعة الأسلحة الملائمة التي تتيح له الظفر والغلبة, فماذا يكون ذلك السلاح الذي يمكن المعتزلة من مجابهة الخصوم الذين لايعترفون بنصوص الشرع, ولايقرون بشواهد النقل؟ ماذا يكون سوي سلاح العقل وحده؟ لقد حفظ لنا التاريخ الموثق أسماء عديد من الفرق الإلحادية المناوئة للإسلام, والتي اضطلع المعتزلة في بغداد والبصرة بمنازلتها ودحض أفكارها, ويكاد يعسر علي المرء إحصاء تلك الفرق, فمن الدهرية إلي المجوسية إلي اليهودية, إلي الزنادقة, إلي المنانية إلي غير ذلك من الفرق التي اندثر بعضها, وذاب بعضها في بعض, ثم بقي مابقي منها ثاويا في بطون المصادر, وغياهب المخطوطات. في هذا المناخ الفكري المحتدم تبلور في الوسط الاعتزالي مبدأ التحسين والتقبيح العقليين, وفي البؤرة من اهتمام واضعيه هدف محدد يجابهون به تلك الموجات العارمة من الإلحاد, بمختلف اتجاهاته وصنوفه, التي تبغي أن تنال من الإسلام منالا, ألا وهو بيان أن ما يتضمنه الإسلام من عقائد وشرائع وأوامر وضوابط فإنما هي أمور يحكم العقل السليم المجرد عن كل المؤثرات: بحسنها المطلق, وأن ما نهي الإسلام عنه: فإنما هي أمور يحكم العقل الخالص وحده بقبحها المطلق, بحيث أننا لو افترضنا جدلا أنه لم يأت من الله تعالي شرع: لحكم العقل بمفرده بنفس ماقضي به الشرع حسنا أو قبحا, أمرا أو نهيا, ومن ثم فإن الشرع حين أمر بشيء فقد كشف عما ينطوي عليه من وجوه الحسن, وحين نهي عن شيء فإنما كشف عما يتضمنه من وجوه القبح!! فماذا يعكس هذا الموقف الإعتزالي المبدئي إلا ضربا عميقا من الثقة المطلقة بحسن أوامر الشرع, وقبح نواهيه؟ كما أنه يعكس في الآن ذاته برهانا ناصعا علي شمول صلاحية الشرع للبشر جميعا مهما اختلفت أزمنتهم وأمكنتهم, لأنه أعني الشرع لم يحكم إلا بما يقتضيه العقل الذي هو القاسم المشترك للوعي البشري علي اختلاف الأزمنة والأمكنة؟ منطق المذهب الاعتزالي, وأقوال مفكريه إذن ناطقة بأن الشرع بأوامره ونواهيه, وسلامة منهجه, وصلاحية توجيهاته: مطابق تماما لحكم العقل ذاته, فلولا أن الفعل المعين كالصلاة مثلا حسن في حد ذاته كما يقول مفكر المعتزلة البارز(القاضي عبدالجبار في موسوعته المغني): لما أمر الله تعالي به, ولولا أن الفعل المعين كعقوق الوالدين قبيح في حد ذاته لما نهي الله تعالي عنه). وهكذا فهم المعتزلة وظيفة العقل المثلي, إنه يكشف عن محاسن الشريعة( بعد) أن تبينت الشريعة, واتضحت محاسنها, وبرزت معالمها, فيري فيها ذلك العقل من الخصائص والمحاسن مالو تجرد هذا العقل ذاته ونظر إليها في حياد كامل لرأي أنها جديرة بأن تكون كما حكم الشرع تماما: حسنا أو قبحا, فعلا أو تركا, فبهذا المنطق الواضح يكون الرد المفحم علي أولئك الطاعنين في الإسلام الذين يود أحدهم لو أوقف موجة الإسلام العالمية عن الإنتشار بكل وسيلة, حتي ولو كانت وسيلة الإدعاء والافتراء, وتشويه صورته, وتلويث صفحته!! بيد أن المعتزلة البغداديين منهم والبصريين علي السواء لم يدر بخلدهم البتة كما يبدو ذلك بأدني تأمل أن يكون دينهم هو دين العقل البديل عن الشرع, ولا أن يكون دينهم هو دين العقل الناقض للشرع, ولا أن يكون دينهم هو دين العقل الحاكم علي الشرع, لم يكن شيئا من ذلك يدور بخلدهم حتي نبتت نابتة التنوير, فإذا بهم يتخيلون في مذهب المعتزلة أشباه هذه الترهات, دون أن يكلف أحدهم نفسه بمجرد قراءة عنوان أحد الفصول الضافية التي تتضمنها( الموسوعة الاعتزالية الباذخة(المغني المجلد الخامس عشر) للقاضي عبدالجبار( إنه لايجوز أن تعرف أحوال المصالح السمعية باستدلال عقلي) أو يكلف نفسه بمجرد النظرة العجلي لما ورد في نفس المجلد(كيف يدل العقل علي أن الصلاة بلاطهارة لاتكون عبادة, ومع الطهارة تكون عبادة, مع أن الحضور فيهما لايتغير)؟ أو يكلف نفسه بشيء من الإطلاع علي التراث الاعتزالي الوفير في علم أصول الفقه, وهو العلم الذي يقبض بجمع اليدين علي أمهات مسائل الفقه الفرعية المتشعبة الأطراف؟ وفي الحق أن هذا المبدأ الاعتزالي الجاد في التحسين والتقبيح العقليين قد تعرض في دوائر الفكر الإسلامي الأخري إلي ضروب شتي من النقاش المتفاعل الذي ينبيء طبقا لمقاييس المنهج العلمي الرصين عن حيوية ذلك الفكر, وخصوبته وثرائه, واتساع نطاقه ورحابة أبعاده, فكيف السبيل مثلا إلي أن تتجرد أحكام العقل لو أخذت بمفردها عن الذاتية والشخصانية, وأن تنأي عن عوامل البيئة, وبواعث الوراثة, ومؤثرات التكوين الأسري والاجتماعي؟ ثم.. ألا ينزلق العقل أحيانا حين يخضع لشيء من تلك المؤثرات إلي استحسان بعض القبيح, أو إلي استقباح بعض الحسن؟ ثم إنا إذا افترضنا إجماع العقول جميعا علي المحاسن العظمي, واتفاقها علي استقباح النقائص الكبري فهل اتفقت تلك العقول علي تفاصيلها, وجزئياتها وتطبيقاتها؟ وهل شقيت البشرية إلا بالاختلاف في التفاصيل, وازدواجية معايير التفسير؟ وهو ما يجعل التآخي بين العقل والشرع ضرورة وجود, وقضية مصير؟ وبرغم هذه المآخذ وغيرها مما يمكن أن يؤخذ علي كل فكر شديد الخصوبة, عميق الثراء, لكن يبقي للمعتزلة علي مدي التاريخ: الفضل الأكبر في درء تلك الموجات الإلحادية العارمة التي جابهت الإسلام في عصر التلاقح الحضاري الخصب, وفي التفاعل معها علي نحو مبهر, وهذا هو الدرس الفعال الذي يجب أن تستبقيه الأمة دوما في وعيها اليقظ, لكن أمرا واحدا يجب أن ينزه عنه فكر الاعتزال بعامة, ومبدأ التحسين والتقبيح العقليين بخاصة, وهو أن يكون ذلك الفكر كما يزعم التنويريون نقيضا للشرع, أو بديلا عنه, أو حكما عليه, فذلك مالم يخطر للمعتزلة علي بال!! المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى