لايزال إيماني بضرورة نشر أفكار التنوير قائما وراسخا في أعماقي, وهو إيمان لا ينفصل عن إيماني الديني ولايتعارض معه, فأنا ماكتبت عن التنوير إلا من منطلق الوعي بقداسة العقل في موروثي الإسلامي أولا وبحافز الدفاع عن الدولة المدنية والحفاظ عليها ثانيا. ولم أبالغ عندما قرأت الكثير مما كتب من فكر عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر, ورأيت في جوانب من هذا الفكر أصولا إسلامية, وثيقة الصلة بالنزعات العقلانية في الإسلام. وكنت أقول لنفسي, ولاأزال, شيئا مما قاله الشيخ رفاعة الطهطاوي لقرائه من أن التفكير الإسلامي عند أمثال ابن سينا وابن رشد انتقل إلي أوروبا بواسطة الترجمة التي أسهمت في إحداث النهضة الأوروبية, فأنتجت فيها العلوم الحكمية الطبيعية التي طورتها العقول الأوروبية, ومضت فيها من حيث انتهي العرب. ومن المؤكد فيما يذهب رفاعة أن هذه العلوم الحكمية.. التي يظهر الآن أنها أجنبية هي علوم إسلامية, نقلوها إلي لغاتهم من الكتب العربية ولذلك كنت كلما قرأت في أفكار التنوير الغربي, بعد أن قرأت كثيرا في ميراث العقلانيين المسلمين, أقول لنفسي: هذه بضاعتنا ردت إلينا. ولكن بعد إضافات وزيادات واجتهادات وإنجازات متراكمة, علينا أن نضعها موضع المساءلة, ونفيد منها في كل مايساعد علي تقدمنا الفكري. وكان اتهام أعداء التنوير لنا بالكفر لايخيف, تماما مثل رميهم كل مايتصل بالنقل عن الفكر الأوروبي بالكفر لأنه نقل عن أعداء الإسلام, فيما يزعم الجهلاء. ولكنني كنت أعلم, كما يعلم غيري, أن الحكمة ضالة المؤمن, أني وجدها فهو أحق الناس بهاو أن الله يحيي القلوب بنور الحكمة. ومن المؤكد أن اقتران الحكمة بالفعل, واقتران العقل بالنور الذي يحيي القلوب هو نقطة البدء في ضرورة إعمال العقل بوصفه أهم مايميز بين الإنسان وباقي المخلوقات, الأمر الذي يلزم عنه ضرورة الإفادة من كل إعمال للعقل حتي لو كان من الأمم المغايرة لنا في الملة والمباعدة لنا في المكان, ولاأزال, أستخدم هذين المبدأين في صد هجمات من يتهمون التنوير العربي بوصفه تقليدا خالصا للتنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر, مدعين أن التنوير ضد الدين, وهو ليس ضد الدين, وإنما حماية للإسلام السمح من المتطرفين الذين يدعون الوصاية علي غيرهم باسم دين, هو بريء من تقليديتهم الجامدة وتصلبهم المقيت وعدائهم المتصل للعقل. وقد عرضت, في مقال سابق, اقتران النور بالعقل والحكمة في القرآن وعند أهل الفلسفة وبعض الائمة مثل الغزالي الذي جعل العقل أساسا والشرع بناء, ولايصلح بناء لا أساس له, وجعلها بمثابة نورين كلاهما مصدر للمعرفة في اجتماعهما, فذهب في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد إلي أن مثال العقل البصر السليم عن الآفات.. ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء... فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان, فلا فرق بينه وبين العميان, فالعقل مع الشرع نور علي نور. وقد أخبرني المرحوم أحمد فراج أنه أخذ اسم برنامجه الشهير من وصف الغزالي لتلازم العقل مع الشرع. ولن تجد دارسا للفكر الإسلامي إلا وقدم العقل علي النقل, معتمدا علي أن سبيل معرفة الله هي العقل, وبعده يأتي التصديق بالنص الإلهي( القرآن) وسنة نبيه الصحيحة. ولذلك أوجب المعتزلة التكليف حتي علي الصبي إذا بلغ الاحتلام, وقالوا بالتحسين والتقبيح العقليين, وذهب الإمام محمد عبده, في مدي اعتزاليته, إلي أن أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي, مؤكدا أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل. ولم يكن حسن البنا نفسه مترددا في تأكيد أن الإسلام جاء ليحرر العقل ويحث علي النظر في الكون. ومن المؤكد أن الإيمان بالنظر العقلي هو الذي يؤدي إلي الإيمان بوحدة العقل الإنساني في السعي نحو كمال المعمورة الإنسانية, وهو الذي يعطف العقول علي غيرها, مهما اختلفت الديانة واللغة والأوطان. وقد قال الكندي الفيلسوف إن تتميم النوع الإنساني هو الغاية التي يسعي إليها العقلاء جميعا, وأن هذه الغاية تتداولها الأمم, واحدة إثر أخري, ولذلك فإن غيرنا أنساب لنا وشركاء لنا فيما نفيده من ثمار فكرهم ولاينبغي أن نستحيي من استحسان الحق حتي وإن أتي من الأجناس القاصية عنا. وكان هذا عين ماذهب إليه ابن رشد حين أكد أن علي المسلم أن يستعين علي ماهو بسبيله بما قاله من تقدمه أو عاصره, وسواء كان ذلك الآخر مشاركا له أو غير مشارك في الملة, فإن الالة التي تصح بها التزكية هي توافر شروط الصحة لا الديانة. وفي تقديري أن هذين المبدأين اللذين أوضحتهما كانا أساسا لحركة تنوير عربية إسلامية في آن, فلم يكن يعنينا, ونحن دعاة عقل اعتزالي الملامح, انساني السمات, حتي في انتمائه الوطني والقومي, وإيمانه الذي لايتزعزع بالدولة المدنية طريقا للمستقبل, ولذلك نرفض فكر التقليد الأعمي والنقل الساذج, وننهي عن محاكاة هذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة الاستنارة. أو يكون تعريف الفيلسوف كنط للتنوير هو تعريفنا, فمن يرفض التقليد في تراثه ينبغي أن يرفضه في غير تراثه, وإلا كان تقليديا وناقلا بالمعني السلبي. ولاأزال أري أن التنويري الحقيقي هو الذي يبدأ من واقعه ومعرفة تراثه, مجادلا بالتي هي أحسن, واضعا أفكاره وأفكار غيره موضع المساءلة, مدركا أن المعرفة البشرية نسبية في نهاية المطاف, وأن هؤلاء الذين تكتسب لغتهم صفات الإطلاق واليقين والجزم هم أبعد الناس عن الحقيقة, والمسافة بينهم وقمع خصومهم أو إرهابهم جد قليلة. والحق أنني وعددا قليلا من أبناء جيلي, كنا نحلم بصياغة حركة تنوير عربية مغايرة, تبدأ من الواقع العربي, مدركة أهمية الدين المتجذر في نفوسنا, والمتجذر في الواقع الذي نعيشه, متطلعين إلي المضي من حيث انتهي أمثال الإمام محمد عبده, في الدراسات الإسلامية التي نهض بها نصر أبوزيد, والدراسات الفكرية والأدبية في المدي الذي انتهي بي الي النقد الثقافي, وكان جمعنا ولايزال, يتفق أو يختلف, لكن ظل يجمع بيننا الإيمان بشكل منفتح من أشكال الثقافة الوطنية, هو نقيض الشكل الأصولي عند ممثلي الإسلام السياسي والشكل الأصولي نفسه( رغم اختلاف المظهر) عند عدد من الماركسيين الذين لايزال بعضهم الوجه الآخر لأصولية الفكر التكفيري الذي يخرج المختلف من الملة, متوهما أنه النموذج الأوحد للنقاء الديني أو الماركسي بلا فارق. وأتصور أن هذه الأصولية المعادية هي التي أعاقت حركة التنوير في مصر المعاصرة, وفي غيرها من الأقطار العربية, فقد كانت اتهامات التكفير, ولاتزال, قمعية ومربكة, لاتسمح بالتطوير الفكري للحركة وتعميقها, ومن يدري؟ ربما لو لم يكن هذا الإرهاب الذي حاصر المجتهدين بتهم التكفير والعمالة للغرب الكافر لوصلت هذه الحركة إلي صيغة عربية جديدة, يفيد منها الفكر الديني والثقافي علي السواء, ولكن كان ماحدث لنصر أبوزيد مخيفا, وتصاعد قمع الإسلام السياسي في المجتمع غدا أكثر إيذاء ماديا ومعنويا. وكل ذلك بسبب اتهام التنوير بالكفر أو العمالة للغرب, سواء عند المتأسلم السياسي أو عند المتمركس الذي لايزال يري أن قراءة الغرب الرأسمالي أو الإفادة منه تعني الخروج عن الثقافة الوطنية وعن الملة في آن. ولكن الجهالة لايمكن أن تدوم, والظلام لن يبقي إلي الأبد, فإن بعد الليل فجرا مشرقا, وهذه سنة التطور الذي هو قانون الحياة والأحياء والفكر علي السواء. المزيد من مقالات جابر عصفور