■ مرسى طلب شطب تهمة إهانة الرئيس من قانون العقوبات.. ومستشاروه يعطلون صدرو التشريع الجديد! بكبرياء القاضى المعتد بنفسه.. المؤمن بمنصبه.. رفض المستشار عبدالمجيد محمود أن يشتغل سفيرا.. أو موظفا.. أو سايسا لخيول السلطان.. كى يرضى عنه.. ويمنحه قلادة النيل التى فقدت سمعتها بعد أن فقدت ندرتها.
بإصرار النائب العام على البقاء فى منصبه سد بجسده النحيل ثغرة فتحتها رئاسة الجمهورية فى سد متهالك.. اسمه القانون.. ثغرة هددت السد بالانهيار.. وهددت العدالة بالغرق.. وهددت السلطة القضائية بالتبعية.. والعبودية لجماعة تتفجر فاشية.. وتعتمد البلطجة السياسية.. وتصر على أنها وحدها القادرة والحاكمة والمسيطرة.
إن عبدالمجيد محمود أثبت بموقفه الجرىء أن القانون أقوى من المدفع.. وأن وشاح العدالة الأخضر على صدره أهم من كل الأوسمة والنياشين الحمراء والصفراء على صدر من يحمل رتبة فريق أو مشير.
لقد استسلم حسين طنطاوى وسامى عنان لقرار إقالتهما فى ضعف عجزا عن تفسيره.. أو تبريره.. وكأنهما صاروخ فقد الوقود.. فسقط محطما.. لينقل فيما بعد إلى مخازن الخردة فى وكالة البلح.
ويبدو أن السهولة التى خرجت بها المؤسسة العسكرية من الحكم بعد سنوات طوال.. نفخت مستشارى الرئيس بقوة هائلة.. مطلقة.. جعلتهم يتصورونه قادر على كل شىء .. فلو كانت المدرعات والثكنات دانت له.. فهل يعارضه ويقاومه ويقف فى طريقه نائب عام يعانى من ضغط دم مرتفع.. ومتاعب فى الظهر.. ويضع فى صدره جهازاً لتنظيم ضربات القلب؟.. لكن.. الرئيس نسى فى زهو السلطة الذى يغمره أن الرجال مثل المعادن.. لا تتشابه فى لونها.. ولا تتساوى فى قيمتها.. ولا تتفق فى درجة انصهارها.
ونسى أن سلطته التنفيذية التى تقيل وزيرا وتطرد مشيرا لا تمتد إلى نائب عام محصن بالدستور والقانون.. وأن الاعتداء عليه اعتداء على السلطة القضائية المستقلة.. وهتك لعرضها.. ومرمطة لشرفها.
نسى أن الرجال مثل الجياد.. بعضها أصيل يصعب ترويضه.. وبعضها.. يقبل دون مقاومة أن يخدم فى البلدية.. ويجر عربات الخضار.. ويقبل برصاصة رحمة.. بتعيينه سفيرا.. أو غفيرا.
لكن.. طريقة الإقالة بدت واحدة.. فقد استغل حادث رفح فى التخلص من قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع مليونية فى التحرير للدعم والتأييد.. تماما.. كما استغل حكم البراءة فى قضية موقعة الجمل للتخلص من النائب العام.. دون نسيان المليونية نفسها.. بمليشيات كشفت عن حقيقة الطرف الثالث.
وما يلفت النظر ويثير الدهشة.. أن تكون سفارتنا فى الفاتيكان منفى لمبعد.. أو مقرا لمغضوب عليه.. أو مكافأة لمشاغب.. وهو أسلوب ليس جديدا علينا.. فقد أبعد جمال عبدالناصر زملاءه فى مجلس قيادة الثورة مثل ثروت عكاشة وخالد محيى الدين إلى سفارات فى أوروبا.. اتقاء لمعارضتهم.. وتجنبا لسخطهم.. وتهدئه لغضبهم.
وبعث أنور السادات بالفريق سعد الدين الشاذلى سفيرا فى بلاط صاحبة الجلالة فى لندن للتخلص من صداعه المزمن.
وعندما استدعى حسنى مبارك لحلف اليمين نائبا للرئيس تصور أنه سيكون سفيرا فى بريطانيا.
وسبق أن رفضت دولة الفاتيكان وهى دولة مستقلة تقع فى روما ترشيح إسماعيل خيرت سفيرا لمصر.. وكان الرجل الذى تولى منصب رئيس هيئة الاستعلامات يتوقع تعيينه سفيرا فى ألمانيا.. لكن.. المنصب كان من نصيب الدكتور محمد حجازى المتحدث الرسمى باسم حكومة عصام شرف.. وفى الوقت نفسه لم يلق إسماعيل خيرت ترحيبا فى الفاتيكان.. بدعوى أنه من رجال النظام السابق.. وربما تلقى عبدالمجيد محمود نفس الرفض لو كان قد وافق على السفر إلى هناك.. وفى هذه الحالة يكون قد ترك منصبه القضائى.. دون أن يحظى بمنصبه الدبلوماسى.
وأتصور أنه حتى لو قبل عبدالمجيد محمود بالعرض.. فإنه لم يكن ليحصل على منصبه الجديد.. فعمره (فى سبتمبر الماضى 66 سنة) تجاوز السن القانونية للسفراء.. فحسب قانون السلك الدبلوماسى والقنصلى (القانون 45 لسنة 1982).. فإن سن المعاش ستون سنة.. وإن كان لرئيس الجمهورية مد خدمة السفراء والوزراء المفوضين سنة قابلة للتجديد حتى سن الرابعة والستين.. فكيف يمكن تعيين عبدالمجيد محمود فى منصب تجاوز قانونه؟.. إن ذلك يعنى تسرعا فى اتخاذ القرارات.. ويعنى تعسفا فى التعامل مع الرجل.. فأغلب الظن أنهم كانوا سينتقمون منه فور تقديم استقالته بتقديم بلاغات ضده.. تمنعه من السفر.. وبعد أن كان سفيرا سيصبح متهما.. وهى خطة شيطانية ليس من الصعب التوصل إليها.. فالطبع غلاب.
وما يدعم هذا التصور مئات المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التى حاصرت مكتب النائب العام طوال الشهور الطويلة الماضية.. وقد قضى عبدالمجيد محمود أياما بعد سقوط النظام السابق فى مكتب بمبنى نيابات الشئون المالية وأمن الدولة العليا بالقاهرة الجديدة.. وفى تلك الأيام فكر فى الاستقالة.. وجلست معه هناك طالبا منه الاستمرار.. فمنصب النائب العام لا يجوز أن يكون عرضة لضغوط مجموعات عابرة.. مهما قويت مظاهراتها.. وبرقت شعاراتها.. وهى مظاهر قد نعرف آخرها.. لكننا.. لا نعرف أولها.
وينظم قانون السلطة القضائية ( القانون 35 لسنة 1984) عمل النائب العام.. وتحصنه المادة «119» بعدم نقله أو عزله أو إقالته.. هو الوحيد الذى يقرر مصيره.. وسبق أن طلبت الرئاسة من النائب العام السابق المستشار ماهر عبدالواحد أن يتولى رئاسة المحكمة الدستورية فاستجاب بنفسه.. وكان يمكنه أن يرفض.
لو أراد النائب العام الاستقالة.. فإنه يرفعها إلى المجلس الأعلى للقضاء الذى يرشح بدوره ثلاثة يختار منهم الرئيس واحدا ليصبح نائبا عاما.. وفور اختياره لا يجرؤ أحد على المساس به.
وعادة ما يستجيب النائب العام فى الظروف الطبيعية لما يريد الرئيس.. دون خلل بالقانون.. لكن.. فى حالة التربص المشتعلة برغبة فى الانتقام وتصفية الحسابات.. يصعب أن تكون العلاقة بين الطرفين كالسمن على العسل.. وتصبح الحماية الوحيدة للنائب العام أن يبقى فى مكانه.. فلو تركه ليكون موظفا مهما كانت درجته ورفعته.. فإن الرئيس بسلطته التنفيذية يمكنه أن يطيح به دون أن يقرأ الفاتحة عليه.
وسيظل عبدالمجيد محمود فى منصبه إلى سن السبعين.. حسب القانون.. وهو ما جعل مستشارى الرئيس يفكرون فى تخفيض سن معاش القضاة إلى 65 سنة.. فيخرج الرجل دون بسهولة.. لكن هذا التصور خاب.. فالقوانين لا تطبق بأثر رجعى.. وهو ما يعنى بقاء عبدالمجيد محمود فى منصبه ولو تغير القانون.
لكن.. المستشارين لا يتحلون على ما يبدو بالصبر الكافى.. وسارعوا بتدبير محاولة التخلص من النائب العام بهذه الطريقة التعسفية.. المسيئة للشرعية.. فأوقعوا الرئيس فى مأزق حرج.. لتنسب إليه مذبحة جديدة للقضاء.. وبالرجوع فى القرار.. لم ينج الرئيس من التشويه.. فصورته فى العيون أصبحت صورة.. حاكم متعجل.. متسرع فى تصريحاته وتصرفاته.. وفى الرجوع عنها.. دون أن يعاقب من ورطوه فيها.
ويعارض بعض المستشارين كثيرا ما يحسن صورة الرئيس ويزيد من شعبيته.. فقد طلب على سبيل المثال وضع تشريع يلغى جريمة إهانة الرئيس.. وهى جريمة مبهمة.. غير مفهومة.. السجن فيها وجوبى.. ومنذ أسبوعين انتهى مشروع القانون متضمنا تعديل خمس مواد فى قانون العقوبات.. ووصل المشروع لرئاسة الجمهورية.. لكن.. لا أحد تحمس لتشجيع الرئيس على إقراره.. فهناك على ما يبدو من يعمل ضده.. ومن يسعده توريطه.
لكن.. ما يثير القلق.. أن الذين ينتمون للعائلة القضائية من كبار المستشارين هم أنفسهم الذين قرروا تمزيق أواصرها وتدمير قواعدها.. فحسب شهادة النائب العام.. فإنه تلقى تهديدات وضغوطا من وزير العدل أحمد مكى وحسام الغريانى الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاة - الرئيس الحالى للجنة التأسيسية التى تضع الدستور - الأول حذره من مظاهرات حاشدة فى كل مكان تطالب بإقالته.. والثانى حذره من مصير عبدالرزاق السنهورى.. وكان الاثنان يتحدثان للأسف من رئاسة الجمهورية.
وعبدالرزاق السنهورى هو فقيه قانونى.. وضع التشريعات المستقرة فى القانون المدنى.. بما لا يتعارض مع الشريعة.. حسب المذهب المالكى.. وبسبب انتمائه للحزب الوطنى القديم دفع رجال ثورة يوليو لمعاداة الوفد.. وإلغاء الأحزاب السياسية.. ورشحه محمد نجيب ليكون رئيسا للحكومة.. وعندما انفجرت أزمة مارس 1954 المعروفة بمعركة الديمقراطية.. هاجم عمال النقل البرى بقيادة صاوى محمد صاوى الشهير ب«صوصو» مبنى مجلس الدولة وألقوا عليه الأحذية.. وخرج السنهورى بإعجوبة.. ليموت عزلة قبل أن يموت كمدا.
نفس الخطة دبرت للنائب العام لو رفض ما يعرض عليه من صفقات.. أن يحاصر الغوغاء - المعروف الآن من يحرضهم ويحركهم ويمولهم - مكتبه.. وأن يعتدوا عليه.. يهددوا حياته.. أو يمنعوه من مواصلة عمله.. لكن.. فات المتآمرين أن النائب العام هو نائب عام ولو فى بيته.. فسلطته تتجاوز جدران مكتبه.. وهو ما قلته لواحد من مساعديه.
وفى نفس الوقت خرجت التصريحات المحرضة من قيادات الإخوان والجماعات الإسلامية.. عصام العريان يقول له: «اقبل المنصب بكرامة.. الخيارات الأخرى صعبة».. ويوسف القرضاوى تساءل: «هل عبدالمجيد نبى معصوم كى لا يقال؟».. وحذر «الجهاد» من التراجع فى قرار الإقالة.. وطالبت الجماعة الإسلامية بمحاكمة النائب العام بعد إقالته.
لقد كشفت هذه التنظيمات والشخصيات القضائية والدينية عن كراهية حقيقية للعدالة.. ورفض فاضح للشرعية.. وتجاهل متعمد لمبدأ الفصل بين السلطات.. وهذه هى الفاشية بعينها.. حيث يكون الحاكم أو القائد أو الزعيم أو الشيخ ملهما.. ما يقوله يقر.. وما يرفضه ينفى.. فلا فرق عنده بين الأمة والجماعة.. بين الدولة والتنظيم السرى.. وهذه هى الحرب الحقيقية التى تعيشها مصر.. وعلى نتائجها يتوقف مستقبلها.. إما أن تعيش عصرها وزمانها.. وإما تنتمى إلى أهل الكهف.
والحسنة مما جرى للنائب العام أنه فرز من يحترم القانون عّمن يحتقره.. من يؤمن بدولة المؤسسات ومن يتجاوزها.. من يدفع التجربة الديمقراطية إلى هاوية الفاشية.. ومن يقاومها.
ومن ترتيبات القدر أن النائب العام سيظل فى منصبه بحكم السن إلى ما بعد ولاية محمد مرسى بأربعة أشهر.. الأيام بينهما.. وهى فى صالح العدالة.. ألا يتوافق الرئيس والنائب العام.. ألا تستجب السلطة القضائية لتليفونات رئاسة الجمهورية.. فهذه التليفونات سجنت مظلومين.. وبرأت مجرمين.. شردت من على حق.. ورفعت من على باطل.. وأغرقت مصر فى طوفان الفساد.
ويستخدم الإخوان كل وسائل الدعاية السياسية السوداء ضد النائب العام.. ويدعون أنه سجن المعارضين لنظام مبارك.. وهنا يجب القول إن جماعة الإخوان لم تكن ضمن المعارضة الشرعية وإنما كانت جماعة محظورة.. تعاقب المادة 56 مكرر كل من ينتمى إليها بالسجن.. ولأن الجماعة لم توفق أوضاعها حتى الآن.. فإن هذه المادة تظل سيفا على رقبتها.. ولو كان رئيس الدولة منها.. ولو سكت النائب العام.. وسكتت كل رموز الحكم.. وسكت القضاة.. فإن إهمال نصوص قانونية قائمة يعنى أننا أصبحنا خاضعين لسطوة السلطة التنفيذية.. وأن السلطة القضائية صفر على الشمال.. وهنا يكون السؤال: هل يطبق الرئيس القانون أم يدفع البلاد إلى فوضى؟.
ويصبح السؤال: هل سيسكت أنصار الرئيس على هزيمته فى معركة النائب العام؟.. هل سيتركون عبدالمجيد محمود يعمل فى هدوء.. أم أن مستوى التهديد سيرتفع من مستوى المظاهرات إلى مستوى الاغتيالات؟.. أخشى أن تكون الإجابة دموية.. مؤلمة.