واحد من موظفى اللجان الإلكترونية الذين توظفهم الدولة لمهمة شتم وتشويه الثورة على مواقع الصحف الإلكترونية والفيس بوك، فلت لسانه مرة وهو يعلق على خبر عن اعتقال منى وسناء سيف خلال اليوم الأول من أحداث شارع قصر العينى الأخيرة، فقال ساخطا: «هو مفيش غير العيلة دي.. كل ما ادخل على صفحة ألاقى خبر عن أحد منهم، ناقص ينزلوا من الحنفية، ربنا ياخدهم ويريحنا». لم يعد أمام النظام سوى الدعاء على عائلة سيف بعد أن عجز عن قمعها أو تخويفها، ولم يعد بإمكانه سوى بث الشائعات على ألسنة مخبريه من أعضاء اللجان الإلكترونية، وبعض السلفيين الذين يعملون لدى الأجهزة الأمنية منذ سنين وحان وقت استخدامهم.. هكذا انطلقت حملة مسعورة على علاء سيف وأسرته خلال الأيام الماضية، وقبل أن تخطو قدم علاء خارج أبواب السجن بعد شهرين من الاعتقال بتهم متهافتة ومضحكة.
من بين مئات الأسماء التى أظهرت بطولات سيحفظها التاريخ عن عظمة وقوة الثورة المصرية، تبرز عائلة «سيف» باعتبارها أشهر أسرة تعرف عليها المصريون وأحبوها، وأكثر أسرة تعرضت لكراهية أعداء الثورة ورغبتهم فى التخلص منها طوال الشهور الماضية.
مساء الأحد الماضى تم إخلاء سبيل الحفيد علاء سيف عبد الفتاح بعد شهرين من الاعتقال داخل سجن عسكري، ثم سجن طرة، بتهمة حمل سلاح وإطلاق النيران على جنود الجيش خلال موقعة «ماسبيرو»، علاء لم يكن موجودا بالمرة خلال هذه الأحداث، لكن تهمته الحقيقية كانت التضامن مع أهالى شهداء المذبحة، حين أصر مع زملائه على تشريح الجثث وكشف أبعاد الجريمة التى ارتكبت يومها.
مساء الأحد تجمعت الأسرة والأصدقاء فى بيت العائلة احتفالا بعودة علاء، من بين عشرات الأصدقاء الذين يتوافدون للتهنئة ثم يتركون المجال لغيرهم نوارة نجم، بيير السويفي، عزة شعبان، وشاب اسمه حسين، من البحرين، علاء، الذى لا يزال يرتدى ملابس السجن البيضاء، يروى ضاحكا أن حسين جاء إلى مصر فى يناير الماضى ليتضامن مع الثورة حاملا معه «ستالايت» صغيرا للتغلب على انقطاع الانترنت والاتصالات، وبعد أسبوعين اندلعت الثورة فى البحرين فلم يستطع العودة لبلده.
الأب سيف الإسلام عبدالفتاح غادر مبكرا للمشاركة فى برنامج تليفزيونى على الهواء يتحدث فيه عن قضية علاء، الأم ليلى كانت تبتسم وترتسم على وجهها السعادة لأول مرة منذ حبس ابنها، تجلس صامتة وتنظر إلى ابنها الذى يتحدث عن تجربته وآرائه كما لو كانت تنظر إلى زعيم أو نجم كبير تراه لأول مرة.
الأختان، منى الطبيبة، ترد على المكالمات المتواصلة، وتمازح علاء مهددة بأنها ومنال -زوجة علاء- سوف تعطيانه هاتفهما المحمول لمدة أسبوع حتى يعرف المعاناة التى تعرضتا لها من كثرة الرد على مكالماته! منى تتلقى مكالمة أخرى تتسبب فى تعكر مزاجها، «هما لازم يعكننوا علينا وخلاص»، بعض المحبوسين احتياطيا فى حادث الاعتداء على السفارة الإسرائيلية، الذين صدر قرار بإخلاء سبيلهم قبلها بيوم، لا يزالون رهن الاجراءات المتعسفة، وأم أحدهم، وهو أحمد عبد الكريم، تبيت أمام مديرية أمن الجيزة فى انتظار ابنها. منى تضع معطفها وتسارع بالنزول مع بعض الأصدقاء للذهاب إلى المديرية والضغط من أجل إنهاء الإجراءات.
سناء، الأخت الصغري، تتردد بين غرفة المعيشة وغرفة النوم حيث تجلس زوجة علاء منال وابنهما الرضيع خالد المولود منذ أسبوعين فقط عند هذه النقطة يروى علاء حكاية مؤثرة عن سناء، خلال فترة حبسه كانت هى المسئولة غالبا عن توصيل بعض الجرائد له يوميا، وذات يوم من أيام موقعة قصر العينى تأخرت جدا فثارت أعصابه وطلب منها ألا تتأخر مرة أخري، بعدها بيوم عرف أنها كانت فى المشرحة فى ذلك الوقت للتعرف على جثة أحد الأصدقاء الذين لقوا مصرعهم فى المعركة.
علاء أصبح العضو الأشهر فى العائلة الآن.. لكن الحال لم يكن هكذا دائما، كل أفراد هذه الأسرة رمز للوطنية بمعانيها المختلفة.. أسرة تختزل وطنا، كما نتمنى أن يكون، أسرة امتلكت العلوم والآداب بيد والسياسة ونضال الشوارع باليد الأخري، من بينها تجد أستاذ علم النفس وأستاذة اللغات والآداب، وتجد الأديبة العالمية وعالمة الرياضة البحتة، كما تجد القانونى والمهندس والطبيبة وخبير الكمبيوتر، كل منهم متفوق فى مجاله إلى حد التفرد، وكلهم معا يشكلون جبهة تتحدى أمراض الوطن من جهل وتعصب وقهر وظلم وسلبية.
الجد هو أستاذ علم النفس الرائد مصطفى سويف، صاحب الكتب المرجعية عن علم نفس الإبداع وعلم النفس الاجتماعي، ومؤسس أكاديمية الفنون، والجدة هى الدكتورة فاطمة موسي، أستاذة الأدب الإنجليزي، والناقدة التى قال عنها نجيب محفوظ إنها أفضل من كتب عنه، والمترجمة التى تعد ترجمتها لرواية «ميرامار» إلى الإنجليزية أفضل ما ترجم لنجيب محفوظ، وصاحبة قاموس المسرح الذى يعد أوفى قاموس عربى إنجليزى فى مجال الثقافة، وهى واحدة من أولى النساء اللواتى ولدن بعد ثورة 1919 وحصدن ثمارها ودخلن الجامعة وحصلن على الدكتوراه.
الأبناء هم أهداف وليلى وسيف، الأولى أهداف، أديبة عالمية تكتب بالإنجليزية وترجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة، لم تكتف بالكتابة الإبداعية، لكنها كاتبة سياسية من الطراز الأول، تنشر مقالاتها بانتظام فى كبرى الصحف الإنجليزية، والكثير من كتاباتها وترجماتها خصصته لتعريف القارئ الإنجليزى بمعاناة الشعب الفلسطيني، رأيتها، وجها لوجه، فى الرابع من فبراير الماضي، بعد يومين من «موقعة الجمل»، كانت تخطب فى الجموع المحتشدة فى ميدان التحرير من فوق المنصة الرئيسية والوحيدة، حين كان الوجه الأجمل للثورة يشرق فى الميدان، قبل غزوات التخلف والبلطجية والمخبرين، لغتها العربية المكسورة قليلا وشعرها المصفف بعناية يمنحانها شبابا يخفى سنواتها الستين، وكلماتها المشتعلة بالحماس والوعى تبث الدفء فى برودة الميدان.
آخر مرة التقيتها كانت خلال جمعة رد الاعتبار الأخيرة فى الميدان أيضا، بدت أكبر سنا وأقل تفاؤلا لكن روح الميدان التى عادت كانت تشتعل مجددا فى ابتسامتها، يوم الأحد حين هاتفتها بعد الإفراج عن علاء كانت فى لندن، تستعد للعودة إلى القاهرة مجددا لتحتفل بالإفراج عن ابن أختها الحبيب، أهداف كانت متزوجة من شاعر إنجليزى معروف، توفى منذ عدة أعوام، ولديها منه ولدان، لكن علاء وأختيه، لهم نفس المعزة تقريبا.. هنا تشعر معهم بجذورها المصرية العميقة.
الابنة الثانية ليلي، صاحبة عقل علمى بحت، واحدة من أفضل أساتذة الرياضيات فى مصر، خرجت فى أول مظاهرة لها عام 1972 وعمرها 16 عاما، عضو مؤسس فى حركة «9مارس» لاستقلال الجامعات، وعضو مؤسس فى الجمعية المصرية لمناهضة التعذيب.. حين اعتقل ابنها الأكبر علاء ظلما أعلنت الإضراب عن الطعام، ولم تتراجع عنه إلا بعد تحويله لمحكمة مدنية.
الثالث هو سيف، المهندس والكاتب السياسي، الأهدأ والأكثر حميمية، الذى يمثل الجانب الوجدانى لهذه العائلة المترابطة المتحابة وزوجته، سهير، فرد أساسى من العائلة، فى الميدان كان يمكن أن تلمحها وهى ترعى بعين أخت زوجها ليلى وبالعين الأخرى ابنها الشاب، الذى يعمل بصناعة الأفلام ويقوم بتوثيق الثورة بصرياً مع مجموعة من أصدقائه.
سيف عبدالفتاح هو زوج ليلى ووالد علاء ومنى وسناء، يعرفه كل النشطاء السياسيين فى مصر لأنه تولى الدفاع عن معظم الذين تعرضوا للاعتقال والحبس منهم، وهو نفسه اعتقل وسجن لمدة خمس سنوات فى الثمانينيات، بتهمة الانتماء لتنظيم يساري، أبرز سمات هذا الأب هى التواضع الشديد، هذا المناضل فى زمن لم يكن فيه النضال سهلا مثل اليوم، يعلن انبهاره بالجيل الجديد، واعتزازه بما يفعلون، ويعترف بأن جيله لم يكن يمتلك تلك الصلابة والإصرار!
وعلاء، الذى ذهب من السجن إلى ميدان التحرير مباشرة، حيث أحاط به المئات من الثوار، يحمل تواضع أبيه، فى لحظة معينة وهو يروى وجهة نظره فى مذبحة ماسبيرو يذكر أنها المظاهرة الوحيدة بعد الثورة التى كانت تحمل ترخيصا من الداخلية، ويتذكر قصة أول ترخيص لمظاهرة حصلت عليه القوى السياسية فى مصر عام 2004 فى الذكرى الأولى لاحتلال العراق، ينادى أمه ليلى باعتبارها بطلة هذه القصة، لأنه كان صغيرا وقتها ولا يعرف التفاصيل، يسأله أحد الصحفيين عن معنى ذهابه إلى ميدان التحرير قبل البيت، فيقول إنه كان يفتقد الميدان والأصدقاء والثوار، ويستمد الشجاعة والتفاؤل منهم، هذه هى المرة الوحيدة حين يذكر الميدان تفر دمعة من عينيه يحاول الهروب منها إلى الغرفة الأخري، حيث تجلس الزوجة منال مع بعض الصديقات ووليدها الأول خالد، الذى يحمل اسم خالد سعيد. منال.. العضو الأحدث فى العائلة قبل خالد، هى الزوجة الصلبة التى تحملت قيام زوجها بتسليم نفسه إلى القضاء العسكري، وإعلانه بأنه يرفض المحاكمات العسكرية ويرفض الامتثال لها، وهو قرار كان يعنى حبسه بالتأكيد، واحتمال سجنه وعدم حضوره لميلاد طفله الأول، منال هى ابنة الحقوقى بهى الدين حسن رئيس مركز القاهرة لحقوق الانسان، وأحد الناشطين الكبار فى هذا المجال منذ سنوات طويلة.
علاء يحمل «خالد» - الذى ولد أثناء وجوده فى السجن، يقبل رأسه ويضحك فى سعادة.
بعد ثوان تخرج الجدة - أخت الراحلة فاطمة موسي- من الغرفة تمزح مع الضيوف حول ملابس علاء البيضاء ووجوده فى الغرفة الأخرى مع كل هذا العدد من النساء، وتقول إنه كان من الأجدر أن يرتدى بيجامة حمراء