ماتت زوجته وتركت له طفلين في عمر الزهور، ولما شقت عليه الوحدة وأثقلت الحياة كاهله بمتاعبها تزوج ثانية، ولعله أحب زوجته الثانية أكثر مما أحب زوجته الأولى.. فقد كانت امرأة ذكية، حنون، مرحة، وبالإضافة إلى ذلك كانت طاهية درجة أولى فأكل من يديها أطعم أكل في الدنيا، وقد تعلق الأولاد بها تعلقاً شديداً مما أراح باله وأقر عينه. غير أن سعادته لم تدم طويلاً، إذ ما لبثت هى الأخرى أن تركته ورحلت ذات مساء، كانا يحتسيان الشاي ويلعبان النرد في الفراندة حين توقفت عن اللعب فجأة، وقالت له إنها تشعر بألم في صدرها، وذهبت لتستلقي على الفراش فلم تستيقظ، كانت فاجعة أخرى هزت دنياه الوادعة بكل قسوة وعاد مرة أخرى يجرع مرارة الحزن والوحدة، غير أن تلك لم تكن نهاية الأحزان فقد ظلت تتوافد عليه صدمات الزمن تباعاً فأصيبت ابنته بالمرض الخبيث وهى في ريعان شبابها، وبعد أعوام من المعاناة مع المرض، وبعد سنوات قضاها بين المستشفى والبيت ومعامل التحاليل، وبعد قدر رهيب من الأخبار التي تتلاعب بالأعصاب فتلهب القلب بنار اللوعة ولاعج الأحزان، انتهى الأمر بأن قضى الله أمراً كان مفعولا ولحقت الفتاة بأمها وزوجة أبيها. إلى هنا تتوقع أن يرأف به القدر ويرفع يداه عنه، غير أن القدر بدا وكأنه يستمرئ تعذيبه، فلم يلبث المسكين أن يبرأ من مأساة فَقْد النساء في حياته ويستعوض ربه خيراً في ابنه، ويقرر أن يكرس حياته لأجله، حتى تحل عليه مصيبة أخرى منقضة عليه انقضاض الصاعقه فتنزع من قلبه السلام وتضنيه بالحزن المقيم.. كان ابنه يعبر الشارع في طريقه إلى كليته ذات يوم فإذ بسيارة مسرعة تصدمه وتصيبه بشلل يقعده عن الحركة، ويستقبل الولد ربيع الحياة من على كرسي متحرك دون أن يستطيع فعل أي شيء بغير مساعدة والده المسن. وكنت قد سمعت عن الرجل قبل أن أراه وقد علمت من صديق لنا أنه دعاه لزيارته بغية أن يعرفنا عليه، وبصراحة كنت أتوقع لشخص عبرت عليه كل تلك الصروف وأصابته كل تلك المآسي، أن يكون حطام إنسان، وتخيلت وجهاً بارز العظام تظلل عينيه هالات من السواد وجسماً محدودباً أحنته انكسارات صاحبه في معركته مع الأيام، غير أنه لم يكن كما تخيلته على الإطلاق. لما قابلته رأيت رجلاً وسيم القسمات، طويلاً، عريضاً، بشوشاً.. وخط المشيب عارضيه فأضفى عليه وقاراً وهيبة، ولما تكلم أسرتني حكمته وانبهرت إعجاباً بمرحه ورزانته، كان يقول بيقين ما أنا إلا مضيف للأحزان.. والضيف لابد أن يرحل مهما طال به المقام، ثم يضحك ويغمز بعينيه مستكملاً، ولكن يبدو أني مضيف جيد لذا يستمرئ الحزن الإقامة عندي دون سواي!
تذكرت وأنا أرقب بإعجاب شجاعة هذا الرجل في مواجهة المصائب، قصة كنت قد قرأتها يوماً مفادها أن ما يحدث لنا وما يعبر علينا من ظروف، ليس هو ما يشكلنا وإنما الذي يشكلنا حقيقة هو ردود أفعالنا تجاه ما يحدث لنا، كانت القصة عن أم ارادت أن تعلم ابنتها درساً من دروس الحياة.. فأتت بثلاثة أوعية ملأتهم ماءً ثم وضعتهم على النار، ووضعت في الوعاء الأول جزرة وفي الثاني بيضة وفي الثالث قهوة.. ولما غلى الماء قالت لابنتها: الماء هو الظروف الصعبة التي تعترض حياتنا.. والناس ثلاثة أنواع نوع تضعفه التجارب كتلك الجزرة التي فقدت صلابتها لما وضعت في الماء المغلي، ونوع تقويه التجارب كالبيضة التي كانت سائلة فلما وضعت في الماء تقوت وصارت صلبة.. والنوع الأخير يا ابنتي هو النوع الأقوى الذي يؤثر دون أن يتأثر.. انظري إلى ما فعلته القهوة بالماء وكيف غيرت لونه وأثرت هى فيه بدلاً من تدعه يؤثر فيها، هكذا أريدك أن تكوني.