كان يوماً يساوي العمر كله. كنت متأكدا أنه يوم سقوط النظام رغم كل ما يبديه من مقاومة. من شرفة منزلي شاهدت الطائرة التي حملت الرئيس السابق عند الظهيرة، ثم شاهدت الطائرة التي حملت زوجته قبل المغرب. نزلت إلي الشارع استقبل مع الجماهير المحتشدة حول قصر الرئاسة بيان الرحيل. ومن هناك إلي ميدان التحرير حيث شلال الفرح الاسطوري بتحقق الحلم الذي طال انتظاره. كانت ساعات خارج الزمان والمكان. مصر كلها تغمرها نشوة الانتصار. دموع الفرح تختلط بأفراح تحقق ما كان أشبه بالمعجزة قبل أيام. أمواج البشر تتدافع ولا أحد يشكو من زحام أو يعاني من إرهاق الليالي التي قضاها في انتظار البشري. أرواح الشهداء كانت معنا ونحن نغني وكأننا نطلب المستحيل: أن تثبت اللحظة ويتوقف الزمن علي هذه الصورة.. صورة الشعب الفرحان تحت الراية المنصورة. نظرت إلي السماء ليلتها. رأيتهم. أقسم أني رأيتهم. هؤلاء الذين رحلوا عنا ولم تكتحل عيونهم بهذا المشهد الذي حلموا به وعاشوا طوال حياتهم يعملون من أجله. أجيال من الفنانين والكتاب والمبدعين والمناضلين كانوا هم السند علي طول الطريق. فتحوا عيوننا علي ان الحياة هي الحرية، وأن المساواة هي الحقيقة، وأن العدالة الاجتماعية هي التي تحفظ للإنسان إنسانيته. زرعوا الأمل بأن الثورة قادمة وان النصر حتمي. انتصروا للحياة ضد اعداء الحياة. علمونا ان ننظر للمستقبل ولا نغرق في الماضي، ان ننحاز للعقل ولمصلحة الناس وللوطن فنجد أنفسنا أمام شرع الله في أعظم تجلياته. كانوا جميعاً معنا في الصورة التي التقطناها في هذه الليلة لشعب بأكمله يغني تحت الراية المنصورة! ويمضي العام، وتأتي الذكري ومعها السؤال: ماذا فعلنا بأنفسنا وبالثورة؟ تفرقت الصفوف وانقسم الثوار. النظام الذي احتفلنا بسقوطه مازال يحتفظ بكل مراكز قوته. الأمن الذي انهار بفعل فاعل لم يحاسب حتي اليوم مازلنا نعاني من آثار انهياره. العملية كلها أديرت بطريقة خاطئة لكي تنتهي ببرلمان ليس فيه مكان للثوار، وبثوار لم يجدوا من يمهد لهم الطريق ليشاركوا في السلطة، وبجيش يتم توريطه في أعمال لم يعد لها، وفي صدامات مع شباب كان ينبغي الحفاظ علي التحالف معهم بأي ثمن. يمضي العام، وتأتي الذكري، والاحوال الاقتصادية تتراجع وتترك آثارها علي الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وقوي الخارج تضغط لفرض شروطها وأعداء الثورة في الداخل يتحركون في كل الاتجاهات. ومذبحة بورسعيد تجسد حالة العجز عن مواجهة التآمر، وشلال الدم هناك يفتح أبواباً للحزن والإحباط لن تغلق إلا بالقصاص العادل وباستعادة المبادرة من جانب قوي الثورة قبل فوات الاوان. أحاول الخروج من هذه المشاعر. أبحث في مكتبتي الموسيقية عن أغنية وطنية تعيد حالتي قبل عام وأنا أغني تحت الراية المنصورة. أجرب الكثير من الاغنيات وأفشل. في آخر الليل أحاول أن أغفو مع كلمات العبقري بيرم التونسي التي لحنها السنباطي قبل اعوام كثيرة: ليه يا بنفسج بتبهج. وانت زهر حزين؟! نقلاً عن الأخبار