* واجه العديد من الثورات التي هددت استمرار حكمه ونجح في إخمادها * أسس بغداد في أربع سنوات وجعلها عاصمة للخلافة * دام حكمه 22 عاماً نجح خلالها في أن يكون المؤسس الحقيقي للدولة العباسية. * حكم البلاد طبقاً لمبدأ «العدل أساس الملك» ولد عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس سنة المعروف بأبي جعفر المنصور عام (95ه = 714م) في قرية «الحميمة» التي تقع جنوب الشام، ولقد كانت نشأته في كنف كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة أكبر الأثر في شخصيته، حيث صار فصيحا عالما بالسير والأخبار، وعلى قدر كبير من الشعر والنثر والبلاغة، وقد كان أبوه محمد بن على هو من نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في دعوته بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، والذين لم يخرجوا عن حيز الحميمة والكوفة وخراسان. وعندما نجحت الدعوة العباسية في الإطاحة بالدولة الأموية، تولي أبوالعباس السفاح الخلافة سنة (132ه، 749) وقد استعان بأخيه جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شؤون الدولة، وقد كان عند حسن ظنه، وتولى الخلافة بعد أن أوصاه أخوه بتولي الخلافة من بعده وكان ذلك في عام (136ه،754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره. ويعود الفضل إليه في إرساء القواعد الأساسية لقيام الدولة العباسية التي كانت لا تزال في مهدها، مما أدى إلى أن البعض أطلق عليه أنه المؤسس الحقيقي لدولة الخلافة العباسية، علاوة على أن فترة حكمه عدها المؤرخون من أقوى الفترات التي مرت على تاريخ الدولة العباسية. شهدت بداية فترة حكم المنصور بعض المشكلات الداخلية حول النزاع على السلطة، مع عمه «عبد الله» وهو الأمر الذي هدأ قليلا بعد مقتله، إلا أن الجو غير الصافي عاد من جديد في ظل الخلافات التي يثيرها بين الفينة والأخرى أبو مسلم الخراساني، الذي كان يحظى بمكانة قوية بين أتباعه وغير راض عن الخليفة المنصور، وكان عداؤه يشتد يومًا تلو الآخر، ومن هنا فكر المنصور جديّا في التخلص منه، فأرسل إليه يخبره أن الخليفة ولاه على حكم مصر والشام، لكنه أدرك أنه بالشام سيكون قريبًا من الخليفة وبعيدًا عن خراسان، حيث يمكث أتباعه، وهنا أظهر أبا مسلم سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ولم يستجب لنصيحة أحد، فأغراه المنصور حتى جاء إليه في العراق، وقتله في عام 137ه، 756م، ولأن مثل هذه الحادثة من شأنها أن تثير جدلاً كبيرًا، فقد خطب المنصور مبينًا حقيقة الموقف قائلاً «أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباح لنا في دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه». وعلى الرغم من ذلك لم تهدأ الأمور. الخروج عليه شهد عصر المنصور العديد من عمليات الثورة والخروج عليه وكان من بينها الثورة التي أقامها رجل مجوسي يدعي «سنباد»، والذي كان من بين الجماهير التي غضبت لمقتل أبي مسلم الخراساني، فالتف حوله الكثيرون من أهل «خراسان»، وعملوا على مهاجمة ديار المسلمين في «نيسابور وقومس والري»، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وعزموا على هدم الكعبة فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور ابن مرار العجلي، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر يتخلص من «سنباد» سنة 137ه/ 756م، حتى واجه من ينادي بخلع المنصور، حيث جاءت الدعوة من قبل قائد جيوشه والذي استولى على كل الأموال التي كانت بحوزة ثوار «سنباد»، وقد كانت خزائن أبي مسلم الخراساني من بينها، فطمع فيها ولم يرسل الأموال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة ونادى بخلع المنصور، الذي قام بتجهيز جيش بقيادة القائد الشجاع «محمد بن الأشعث» الذي تمكن من إلحاق الهزيمة به وفر بعدها هاربًا إلى «أذربيجان»، وكانت الموقعة في عام 137ه/ 756م. علاوة على ثوارت للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج للدولة العباسية، حيث خرج «ملَبد بن حرملة الشيباني» على رأس قوة تتألف من ألف فرد من أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، وتمكن من تحقيق عدة انتصارات بسيطة قبل أن يلقى الهزيمة على يد جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة عام 138ه/ 757م، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد حيث تحرك الخوارج مرة أخرى في خلافة المنصور سنة 148ه بالموصل تحت قيادة «حسان بن مجالد الهمداني»، وتمكنت الجيوش من رد تلك التحركات. غلبت مجموعة من الصفات على شخصية الخليفة المنصور والتي تميزت بالهيبة، والشجاعة، والحزم، والجبروت، والحرص على المال العام، والعقل الراجح.. فعمل المنصور على إعادة ترتيب البيت من الداخل فعمل على بناء عاصمة جديدة لدولة الخلافة العباسية تكون بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار «بغداد» على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها عام (145ه، 762م) واستخدم في ذلك عددا كبيرا من المهندسين للإشراف على عملية البناء، واستعان بأعداد هائلة من البنائين والصناع، الذين عملوا بجد وهمة حتى انتهوا منها عام (149ه، 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته وأصبحت المقر الرئيس لكل دواوين الدولة، وأصبحت بغداد من وقتها عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام، تيمناً بدار السلام وهو أحد أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف بمجرد إنشائها حيث عمل على توسيعها سنة (151ه، 768م) وإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، والتي جعلها مقراً لابنه وولي عهده «المهدي» وشيد لها سورًا وخندقاً ومسجداً وقصراً. عندما ذهب المنصور للحج عام 158ه، 775م، مرض أثناء الرحلة وكان ابنه محمد المهدي الذي أعطى له وصية يعمل على تنفيذها من بعده قال فيها: «ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك في كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. يا بني: احفظ محمدًا في أمته، يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك في الآجل، وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.