لم يشهد العالم منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991 أجواءً ساخنة مثل تلك التي يشهدها العالم في هذه الأيام، فالتهديدات العلنية المتبادلة بين روسياوالولاياتالمتحدةالأمريكية بلغت حدا غير مسبوق، وكانت الذروة إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه للأمة الروسية في الأول من مارس الماضي عن أسلحة جديدة خارقة قادرة على ضرب أى مكان في العالم. هذه الأسلحة تشمل صاروخ كروز نوويا ثقيلا عابرا للقارات يحلق على ارتفاع منخفض يصعب رصده، ويمكنه تجاوز جميع الأنظمة الحالية والمستقبلية للدفاعات الصاروخية والجوية، بالإضافة إلى غواصات ذاتية القيادة تستطيع الغوص لأعماق كبيرة جدا وتطلق صواريخ فرط صوتية (وهذا مصطلح عسكرى تقني يعني أن سرعة هذه الصواريخ تفوق سرعة الصوت بمقدر خمسة أمثال على الأقل، ويمكن أن تصل سرعتها إلى عشرين مثل سرعة الصوت)، وهو بالطبع ما يهدد ذراع أمريكا الطويلة في المحيطات، وأعني بها حاملات الطائرات النووية الجبارة. وبالرغم من أن الولاياتالمتحدة قللت من أهمية تصريحات الرئيس الروسي وادعت أنها كانت تراقب التجارب الصاروخية الروسية الفرط صوتية، إلا أن القلق الأمريكي لا يمكن إخفاءه، خاصة أن الفيديوهات التوضيحية الروسية التي عرضها بوتين في خطابه أظهرت بجلاء أن الهدف النهائي للأسلحه الروسية دائما كان الأراضي الأمريكية. فما الذى دفع الرئيس بوتين إلى هذا الصدام الخشن؟ إن إصرار الولاياتالمتحدةالأمريكية على استكمال مشروع "الدرع الصاروخية" على الرغم من اعتراض روسيا ووصول عدد الصواريخ الاعتراضية المدمجة في الدرع الصاروخية الأمريكية إلى حوالي 400 صاروخ تنتشر على متن منصات في قواعد وأساطيل أمريكية حول العالم، بات يهدد قدرة روسيا علي توجيه ضربات انتقامية (ما يعرف بالضربة الثانية) للرد على الولاياتالمتحدة في حاله شنها هجوما نوويا على الأراضي الروسية، وهو ما كان يقيم توازنا للرعب بين الدولتين، وذلك التوازن هو الذى حال دون نشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة طوال فترة الحرب الباردة لإدراك كلا الدولتين أن الحرب ستحمل الدمار الشامل لهما معا، ولكن في حالة استكمال الدرع الصاروخية فإن الدمار كان سيكون من نصيب روسيا فقط، وهو ما تدرك روسيا أنه سيكون حافزا للولايات المتحدة على توجيه ضرباتها النووية إليها عند أول فرصة سانحة. وليس هذا فقط ما أقلق روسيا، فالولاياتالمتحدة أحاطت روسيا بالقواعد العسكرية وبالدول الحليفة. ومنذ سنوات، انسحبت الولاياتالمتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ABM وبالتحديد في عام 2002، وها هي الان تلوح بالانسحاب من اتفاقية انتشار الأسلحة النووية التي تم إبرامها عام 1987. وأمام كل هذه التهديدات، كان لزاما على روسيا أن تلقي بكل ثقلها العلمي والتكنولوجي من أجل التوصل لأسلحة ساحقة تمكنها وبأقل التكاليف من ردع الولاياتالمتحدة التي كانت تراهن على عجز روسيا عن مجاراتها عسكريا بسبب تفوق القدرات الاقتصادية الأمريكية على نظيرتها الروسية، وهو ما جعل في استطاعة الأمريكيين تخصيص ميزانية دفاع عملاقة تبلغ قيمتها أكثر من 700 مليار دولار لعام 2018 في مقابل ميزانية عسكرية متواضعة لروسيا تبلغ ستبلغ 46 مليار دولار للعام نفسه (وهذه الميزانية أقل مثلا من ميزانية السعودية العسكرية التي تجاوزت 70 مليار دولار). ولكن أسلحة موسكو الجديدة جعلت كل حسابات الأمريكيين في امتلاك قوة لا تبارى على سطح هذا الكوكب الأزرق تتهاوى وتذهب أدراج الرياح. فهل تتوقف الولاياتالمتحدة عن استفزاز الروس أم تكمل في الطريق المفضي إلى سباق تسلح جديد؟ أعتقد أننا جميعا نعرف الإجابة، وهي أن العالم عاد للركض السريع نحو سباق الدمار.