تستوقفني قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوروبي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة. وآيا ما كانت حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها، وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف. وعادة ما تستوقفني الأحداث التاريخية واربطها ببعض المسائل الاقتصادية ماذا لو قلنا الآن.. الإنتاج أو الموت؟ إن الخطوات الإصلاحية التي شهدها الاقتصاد المصري في الآونة الأخيرة قد آثارت الرأي العام وجمهور المستهلكين الذين راحوا يئنون تحت وطئة ارتفاع الاسعار، بل ودفعت البعض ليترحم بل ويمجد في الحقب السابقة. هل أراد الرئيس السيسي أن يفقد شعبيته؟ لماذا سعى لإصلاحات اقتصادية في وقت يضعه فيه ذلك في مرمى سهام المعارضة ويعرضه للنقد؟ الا يبحث عن مجد شخصي وأغاني يذكر فيها اسمه؟ الا يهتم بمن يحملون صوره ويهتفون باسمه؟ هل ينتظر ان يأخذ حقه الآن أم ينتظر ما سيكتبه التاريخ؟ تطبيل وتهليل.. هكذا يتهم كل من دافع عنه وعن ما يفعله من بعض من لا يفهمون ومن بعض من يفهمون ولكنهم رافضون لكل خطوة للأمام. لن أدافع عنه وأترك الأمر برمته لخيال القارئ، وأعود لما قلته سابقا "الانتاج أو الموت".. هل قال السيسي ذلك؟ لكم الاجابة ولكن بعد ان انتقل لتجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مع استعراض مقارن لما قبل الحرب من مقال بعنوان "معجزة اليابان" لهيثم قطب. بداية النهضة الفعلية كانت عندما أتى الإمبراطور (موتسوهيتو) في يناير عام 1868 وقاد حركة قامت على مبدأ واحد هو (بلد غني وجيش قوي).. جيش قوي..! هل استوقفكم شيء؟ أدرك اليابانيون أن الهدف الأساسي ينبغي أن يكون لسد الفجوة الاقتصادية والعسكرية بينهم وبين الغرب وكانت حركة الانفتاح في مجملها على مرحلتين، الأولى هي التوجه للقارة الأوروبية لأخذ ما يساعد نظاميًا الهرم الياباني الناشئ، فتمت الاستعانة بنظام الشرطة والتعليم الفرنسيين والنظام الإداري (الحكومي) الألماني، ثم كانت المرحلة الثانية فيما بعد الحرب العالمية الأولى والتوجه للولايات المتحدة لرفع كفاءة القطاع الصناعي والتوسع الاقتصادي للشركات الكبرى العاملة ونقل الإدارة الصناعية والمعرفة التقنية لها. ترتب على ما سبق تصاعدًا اقتصاديًا لأول قوة شرقية خارج نطاق القوى التقليدية (أوروبا والولاياتالمتحدة)، وتكون نسيج شديد التماسك من اتحاد الدولة بأجهزتها بقيادة (العسكريين) مع اتحاد شركات القطاع الخاص وهو ما عرف باتحاد (زايباتسوا) والذي هيمن حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية على نصف الأنشطة الاقتصادية في البلاد. على مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت الولاياتالمتحدة كل ثقلها الحربي في اليابان لتتسبب في أكبر مجازر حربية في التاريخ الحديث! في البدء كان القصف الجوي الذي انتهى بقنبلتي هيروشيما وناجازاكي وحصارًا بحريًا شاملًا على الدولة تسبب في انهيار الاقتصاد الياباني حينها، وهو ما تسبب في نقص حاد في الإنتاج والسلع والغذاء، مما أنذر بمجاعات واسعة النطاق تتسبب في هلاك مئات الآلاف، انتشرت الأسواق السوداء مع ارتفاع هائل في الأسعار، ووصل عدد العاطلين لما يقارب خمسة مليون عاطل وبمن يعولون وصل العدد الي عشرة ملايين عاطل. المثير للتأمل أنه لا المجاعة ولا البطالة حدثت على الرغم من ممارسة الولاياتالمتحدة لمتعتها في التحكم عن طريق المساعدات، فكل ذلك لم يكن له أن يستمر. فقبل الهزيمة بشهر كانت اليابان تنهار والولاياتالمتحدة توشك على دكها بالكامل والأرض الطيبة تتحول لأرض رعب مقيم، ولكن، وفي غمرة ذلك كان شابان يعملان مهندسيْ كهرباء في العاصمة الصينية بكين، لكنهما عندما شاهدا ما يحدث عادا إلى طوكيو ليبدآ التحضير لجلسات نقاشية أولية يتم فيها وضع خطة لتجاوز ما سيحدث اقتصاديًا، ومناقشة اتفاقية بريتون وودز التي كانت وقعت قبل الجلسة بعام في الولاياتالمتحدة ونتج عنها تثبيت الدولار كعملة قياسية وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثم تبنت الحكومة الجلسات رسميًا تحت مسمى المشكلات الأساسية لإعادة إعمار الاقتصاد الياباني والتي لازالت توصياته الاقتصادية يعمل بها حتى الآن. هل استوقفكم شيئا آخر بما يحدث في منتديات الحوار الوطني؟ وفي عالم ما قبل الحرب كان هناك طفل ينحدر من أسرة شديدة الفقر، ابن لحداد وطالب من أفشل طلاب مدرسته، إلا أنه كان مهوسا بالميكانيكا حتى أنشأ ورشة لإنتاج بعض قطع السيارات لعملاق الصناعة اليابانية (تويوتا)، حتى عام 1944 حيث ضربت قاذفة قنابل أمريكية ورشته ثم اكمل عليها زلزال في العام 1945 بعد أن أنشأها مرة أخرى، لتنتهي الحرب العالمية الثانية بخسارته لكل شيء. بعد الحرب، بسنوات معدودة أعاد بناء كل شيء ليصبح مالكا للشركة اليابانية الأولى في تصنيع الدراجات النارية، وبعد عشر سنوات أخرى استطاع ان يصدر للولايات المتحدة مليون دراجة نارية في العام! وبعد فترة أصبح أحد من أكبر ستة مصنعين للسيارات في العالم، والأولى عالميًا في تصنيع الدراجات النارية، انه (سويتشيرو) مؤسس هوندا التي تقدر قيمتها الآن بما يفوق الستين مليار دولار كإحدى أكبر الشركات العالمية وما سبق هو تقريبًا نفس قصة آخرين بأسماء مختلفة، يشتركون كلهم في الظروف شديدة الصعوبة، في الفشل المستمر قبل النجاح، في خروجهم عن المألوف، وهم من أوصلوا اليابان حينها لاحتلال المركز الثاني كأقوى اقتصاد عالمي بعد الولاياتالمتحدة مباشرة، وكان أمام الشعب الياباني وحكومته خيارات قليلة جدًا وبديهية للتعامل مع الوضع، تخفيض قيمة العملة بشكل حاد، أو التقشف وانكماش الاقتصاد بالتالي، لكنّ اليابانيين اختاروا طريقًا ثالثًا بالغ الصعوبة وهو (تحسين الإنتاجية) مع استثمار فائق في القطاع التكنولوجي لمضاعفة الإنتاجية كمًّا مع هدف زيادة الجودة. إن كنت مازلت تسأل نفسك عن كيفية وصول اليابان لما هي عليه، فإن أنسب شخص لإجابة هذا السؤال هو سويتشيرو هوندا الذي ذهب في مرة لأحد مصانع الشركة وأراد أن يسلم على عامل ياباني هناك، سحب العامل يده مسرعًا لأنها مغطاة بالشحم، لكن هوندا جذب يده وشد عليها مبتسمًا وقائلًا (لماذا تسحبها؟ أنا أحب الشحم). وأخيرا هل تتذكر فتاة العربة وهي تجلس بجانب الرئيس؟.. هل فهمت شيئًا؟