لم تقتصر نتيجة النصر الساحق الذى حققه الحزب الديمقراطى اليابانى فى 30 أغسطس على إنهاء حكم الحزب الليبرالى الديمقراطى الذى حكم البلاد لما يزيد على نصف قرن بلا انقطاع تقريبا، بل إنها تعد كذلك بإعادة صياغة سياسة اليابان الخارجية عامة وعلاقاتها بالولاياتالمتحدة بصفة خاصة. وانطلاقا من رد فعل واشنطن الأولى، فمن الواضح أن الولاياتالمتحدة قلقة من احتمال تغيير حكومة يسار الوسط الجديدة من كثير من مواقف اليابان المؤيدة للولايات المتحدة وابتعادها عن التحالف الأمنى الأمريكى اليابانى الذى يعد ركيزة الإستراتيجية الأمريكية فى آسيا منذ الحرب العالمية الثانية. فهل للقلق الأمريكى ما يبرره بحق؟.. وهل ستبتعد اليابان عن الولاياتالمتحدة وتتجه نحو آسيا، وبالذات للصين؟ على السطح، يبدو القلق من التحول الدراماتيكى فى سياسة اليابان الخارجية غير مبرر. فعلى عكس الحزب الليبرالى الديمقراطى، وهو حزب محافظ يميل إلى إقامة علاقات قوية مع الغرب حتى على حساب إقامة علاقات جيدة مع جيران اليابان الآسيويين، يعتبر الحزب الديمقراطى أكثر يسارية وله علاقات طويلة بواشنطن. ومنذ تأسيسه فى 1997، كان من الضعف وعدم الفاعلية ما جعل واشنطن لا تبالى بالتواصل مع قادته. والحقيقة أن الاضطراب الذى شهده الحزب كان كبيرا مما اضطر زعيمه الذى طالت سنوات زعامته إلى الاستقالة منذ شهور قليلة فى أعقاب تورط كبير مساعديه فى فضيحة فساد. وكانت النتيجة مجىء زعيم الحزب الديمقراطى الجديد ورئيس الوزراء القادم، يوكيو ياتوياما، وهو سياسى مبتدئ لا يعرف كثيرون فى واشنطن أى شىء عنه. وإذا نحينا العلاقة الشخصية جانبا، فمن الواضح أن الولاياتالمتحدة أزعجها بعض الوعود الانتخابية التى قدمها السيد ياتوياما، مثل الكف عن دعم اليابان للحرب فى أفغانستان (تقوم اليابان حاليا بتزويد بعض القطع الحربية الأمريكية فى المحيط الهندى بالوقود) وتقوية علاقات اليابان بالصين وغيرها من البلاد الآسيوية. وإذا أوفت حكومة اليابانالجديدة بوعودها الانتخابية، فسيغير هذا بوضوح العلاقة الحالية بين الولاياتالمتحدةواليابان. فعلى مدى نصف القرن الماضى، كانت واشنطن تعتبر دعم طوكيو أمرا مفروغا منه. وكشريك أصغر، وضعت اليابان سياستها الخارجية فى خدمة الولاياتالمتحدة، مخضعة مصالحها القومية الخاصة لمصالح الولاياتالمتحدة فى كل ما يتصل بالأمن الدولى (وإن كانت سياسة اليابان الاقتصادية أكثر استقلالية بكثير). وبالمقابل، تتولى الولاياتالمتحدة حماية أمن اليابان القومى (وإن كانت اليابان تتحمل بالفعل معظم التكاليف المالية للحماية الأمريكية). ولزمن طويل، سارت علاقة المنفعة المتبادلة هذه سيرا حسنا للغاية. فكان للولايات المتحدة حليفها الاستراتيجى الذى يعتمد عليه فى آسيا، وليست له مطامح عالمية خاصة، ولليابان راع يمكنه حمايتها من التهديدات الخارجية من جانب الاتحاد السوفيتى فى فترة الحرب الباردة ومن الصين اليوم. لكن الحزب الديمقراطى اليابانى يعتقد أن على اليابان ألا تضع كل بيضها الأمنى فى السلة الأمريكية. وعلى الرغم من أن العلاقات الأمنية الوثيقة بالولاياتالمتحدة أفادت اليابان، فقد كان لهذا تكاليفه الخفية. واليابان غير قادرة على إقامة علاقات دافئة مع جيرانها الرئيسيين، وخاصة الصين، لأن واشنطن عادة ما تستخدم التحالف الأمريكى اليابانى للحد من النفوذ الصينى فى شرق آسيا. لذلك، سيتجه الحزب الديمقراطى على الأغلب باتجاه إعادة التوازن لسياسة اليابان الخارجية. وهناك إجراءات معينة ستزعج واشنطن. على سبيل المثال، سيزعج إنهاء اليابان لعملياتها فى المحيط الهندى لدعم المجهود الأمريكى الحربى فى أفغانستان إدارة أوباما (بالرغم من أن هذه الخطوة لن تؤثر، من الناحية العملية، على الحرب). كما أن مطالبة الولاياتالمتحدة بتحمل بعض أعباء نشر القوات فى اليابان سيثير غضب واشنطن، لأن الأمريكيين يرون فى وجودهم العسكرى نعمة لليابانيين، الذين لا يضطرون لإنفاق الكثير على الدفاع (يمثل الإنفاق اليابانى على الدفاع 1% فقط من إجمالى ناتجها المحلى). وسيعنى اتخاذ موقف أكثر استقلالية فى السياسة الخارجية أن الولاياتالمتحدة لا يمكنها الاعتماد على اليابان فى تقديم المال لمبادرات السياسة الخارجية الأمريكية. ففى الماضى، كانت اليابان تقدم دائما بإخلاص الدعم المالى المطلوب للولايات المتحدة لإنجاز أهداف سياستها الخارجية. لكن واشنطن لن تعبأ كثيرا بوعود التغيير الأخرى الصادرة عن طوكيو. وعلى سبيل المثال، إذا كان تحول اهتمام السياسة الخارجية اليابانية نحو آسيا يعنى انسجام اليابان مع ماضيها بحق وبالتالى الكف عن محاولة تبييض تاريخها العسكرى، فإن خطوة كهذه ستساعد فى تحسين علاقات اليابان بالصين وكوريا، وتسهم من ثم فى تحقيق المزيد من الاستقرار فى شرق آسيا. لكن على الجانب الآخر، يبدو شجب الحزب الديمقراطى اليابانى للعولمة والرأسمالية على الطريقة الأمريكية منفرا لمسامع واشنطن، لكن قلة من الزعماء الأمريكيين تقض مضاجعهم هذه الرطانة. ومع مشكلات اليابان الاقتصادية العميقة بسبب قلة عدد السكان وتصاعد الدين الوطنى العام، ستكون قدرة الحزب الديمقراطى على تطبيق سياسات اقتصادية اشتراكية محدودة جدا فى الفترة المقبلة. وبينما تنتظر الولاياتالمتحدة تحول السياسة الخارجية اليابانية بقدر من القلق، من الواضح أن الصين ترحب بتغيير القيادة فى طوكيو. وحتى وقت قريب جدا، لم تكن علاقة بكين بطوكيو ودية تماما. فالصين ترى فى اليابان تابعا للولايات المتحدة ومنافسا استراتيجيا فى حين تنبهت اليابان، التى قللت طويلا من إمكانيات الاقتصاد الصينى، فجأة لصعود الصين ولقدراتها العسكرية. أضف إلى هذا تناحر البلدين حول ما يطلق عليه مسألة التاريخ من منظور الصينيين، لم تقدم اليابان اعتذارا كاملا ومقبولا عن غزوها الوحشى للصين أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما تعتقد اليابان أنها قدمت هذا الاعتذار (برغم توافد كبار الساسة اليابانيين لزيارة مقبرة طوكيو لتكريم مجرمى الحرب اليابانية). وعلى الرغم من تحسن العلاقات كثيرا منذ 2006، لاتزال الصين تنظر بتحفظ إلى الحزب الليبرالى الديمقراطى، الذى يضم قادة من ذوى النزعات القومية واليمينية المتشددة، والذين يرون فى الصين خطرا مهلكا لليابان. من هنا، فإن صعود حكومة يسارية فى طوكيو من شأنه تسهيل الأمور على بكين. لكن، وفى نفس الوقت، اليابان لا ترغب فى التخلى عن علاقتها بالولاياتالمتحدة، لتصبح شريكا أصغر للصين. وهناك نزاعات قائمة بين طوكيو وبكين، ناهيك عن تلك النزاعات التاريخية. فكل من البلدين، على سبيل المثال، يدعى السيادة على بعض الجزر فى بحر شرق الصين. وحكومة الحزب الديمقراطى لا يمكن أن تتنازل عن هذه الجزر للصين. والمشاعر المعادية لليابان عميقة الجذور فى المجتمع الصينى، بينما يتردد صدى القلق من هيمنة الصين بين اليابانيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية. وهكذا، بينما ستشهد العلاقات اليابانية الصينية الدفء فى المدى القريب، فهى لن تتحول أبدا إلى شكل من أشكال التحالف. أما بالنسبة للحزب الديمقراطى اليابانى، فإن نجاحه رهن بسياسته الداخلية، لا الخارجية. فلم يأت الحزب إلى السلطة بسبب فشل السياسة الخارجية للبلاد، بل بسبب التدهور الاقتصادى. لذلك فإنه إذا بدد الحزب الديمقراطى طاقته فى السياسة الخارجية، بدلا من التركيز على الاقتصاد، فإنه لن يعمر طويلا فى الحكم. (خاص الشروق)