كانت فترة السجن و"الزنزانة 54" من أبرز الأمور التي كان لها تأثير كبير على الزعيم الراحل "محمد أنور السادات"، فبعد اتهامه بالتورط في اغتيال "أمين عثمان"، وزير المالية في وزارة "النحاس باشا" في يناير عام 1946، ودخل "السادات" السجن ومكث فيه نحو 30 شهرا. وتحدث في مذكراته التي نُشرت تحت عنوان "البحث عن الذات"، عن تلك الفترة قائلا:" إنها أتاحت له فرصة العيش مع نفسه بعيدا عن تيار الحياة اليومية، وكذلك أنكب خلال تواجده بالسجن على قراءة الكتب والمجلات والصحف بنهم، حيث كانت أكثر قراءاته باللغة الإنجليزية والباقي باللغة العربية، وهو ما ساعده على توسيع أفاقه. ولم تقتصر فائدة قراءاته المتعددة على توسيع آفاقه فقط، حيث ساعدته على التخلص من أزمة عصبية كان يعاني منها منذ زمن، وكانت بسبب القبض عليه في الساعة الثانية صباحا في برد الشتاء القارس في عامي 1942 و1946. ولم تكن الفترة التي قضاها "السادات" في السجن قاصرة على تحقيقات النيابة وجلسات المحاكمة وجدران الزنزانة والقراءات فقط، فقد تعرض أيضا لبعض المواقف التي يمكن وصفها بالطريفة أو المثيرة، والتي أوردها في مذكراته التي عكف على تدوينها أيام السجن، ونُشرت تحت عنوان "30 شهرا في السجن". وكان من أبرز تلك المواقف: - ثلاثة أيام بالبدلة العسكرية كادت تصيبه بالجرب: في يوم 20 يناير 1946، كتب "السادات" أنه أمضى 3 أيام في السجن وهو ينام ببذلته بعد أن تم نقله إلى سجن الأجانب من سجن مصر في 17 يناير بدون أن يحضروا ملابسه وأغراضه من ذلك السجن، الأمر الذي دفعه إلى التقدم بشكوى شفوية للمأمور ثلاث مرات على مدار الأيام السابقة. وعندما لم تسفر شكواه عن أي نتيجة، كان رد فعله: "كتبت خطابا شديد اللهجة إلى النائب العام في شأن هذا الإهمال، وتركي بدون ملابسي أو حتى صابونة لأغتسل، وقد سبب لي النوم بالبذلة التهابا شديدا في فخذي جعلني أهرش كما لو كنت أجرب". وكانت نتيجة ذلك الخطاب أن أحضر له مأمور السجن ملابسه وكذلك الصابون، وسمحوا له بحمام ساخن. - حاول أحد أعوان البوليس السياسي الإيقاع به فوضعه "السادات" في موقف لا يُحسد عليه: في يوم 27 يناير 1946، كتب قائلا إنه خرج للفسحة فقابله شاب أخبره أنه صحفي معتقل على ذمة قضية صحفية، وأخذ يحدث "السادات" عن قضيته وعن السياسة والإنجليز والذين يتعاونون معهم، وضرورة القضاء على الفئة الأخيرة كونها طابور خامس، وبعد ذلك حدثه عن سجين كان محتجزا في نفس زنزانته وقد تعرض للتعذيب حتى تحطمت أعصابه واعترف بكل شئ. ثم أخبره بوجود غرفة في السجن بها آلات تركب على الجهاز التنفسي للإنسان وعلى رأسه ليصبح في غيبوبة يدلي فيها بكل ما في قلبه من أسرار، وطوال تلك الفترة، لم يتحدث "السادات" على الإطلاق، فطلب منه "الصحفي" أن يتكلم ويخبره بالحقيقة لعله يتمكن من مساعدته قانونيا، فقال له "السادات" في هدوء: "أنت بتمسك كام ساعة النوبتجية؟" فرد بدون تفكير: "12 ساعة" ثم احمر وجهه وأدرك خطأه وترك "السادات" ورحل على الفور. وفي يوم 5 فبراير اتضح رسميا أن "الصحفي" لم يكن سوى أحد أعوان البوليس السياسي. - أراد الاحتفال بنقل المندوب السامي البريطاني فأصيب بإسهال: في 17 فبراير علم "السادات" بخبر نقل المندوب السامي البريطاني "كيلرن" من مصر، والذي كان "السادات" يبغضه بشدة، فصمم على الاحتفال بتلك المناسبة وأرسل في شراء دستة جاتوه وزعها على فتاة كانت مسجونة معه، وعلى السجانات والسجان، واحتفظ لنفسه بثلاث قطع تناولها مساءا، لكن لسوء حظه فقد استيقظ في الثانية صباحا على مغص وإسهال، وأتضح أن الجاتوه كان فاسدا. وعلق على تلك الواقعة بسخرية قائلا: "إنني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول إلى حقد دفين منذ هذه الليلة". - اجتماع بين المتهمين في قضية "أمين عثمان" يسفر عن قرارات طريفة: في 3 يوليو 1946، تقابل المتهمون في قضية "أمين عثمان" لمناقشة أحوالهم في السجن وكيفية جعل حياتهم فيه محتملة قدر الإمكان، قرروا عدة أمور من بينها: 1. توزيع جميع الأطايب "الحلويات وما شابهها" والتي تأتي لأحد المتهمين على الجميع. 2. على كل من يرى امرأة جميلة في شباك سجن النساء أن يخطر الباقين لمشاهدتها أثناء الطابور.. والغزل ممنوع، ويكتفى بالمشاهدة أو المصمصة فقط. 3. إصدار مجلتين أسبوعيتين للتعليق على الحوادث العامة وعلى ما يدور في السجن. - "الهنكرة والمنكرة": تحولت فكرة إصدار المجلتين إلى كارثة بكافة المقاييس، فبعد اختيار اثنين من السجناء لرئاسة تحرير كل منهما، دخل الاثنان في منافسة شرسة وشجارات عنيفة على المحررين وحتى على الأقلام والأوراق، لدرجة أن الأمر وصل إلى سب كل منهما للآخر، فنشر المسئول عن إحدى المجلتين، والتي أطلق عليها اسم "الهنكرة والمنكرة" إعلانا سب فيه المسئول عن المجلة الأخرى بأفظع الشتائم، وذلك فضلا عن تنظيم أعضاء إحدى المجلتين موكب يمر في طرقة السجن، مما تسبب في إيقاع عقوبة على جميع المساجين. وعلق "السادات" على ما حدث بسبب المجلتين قائلا: " اللهم أنقذنا من الصحافة والصحفيين.. أصبحنا ولا هم لنا إلا فض إشكال الجريدتين، ويظهر أن حمى السبق الصحفي ستفسد علينا معيشتنا". وأخيرا في يوم 26 أكتوبر 1946، صدرت المجلة، وقال "السادات" عن اللحظة التي تسلمها فيها: "ها هي مجلتنا بين يدي وسأحتفظ بها تذكارا لهذه الفترة، ولعلي أهديها لقومي في يوم من الأيام". - "السادات" يشارك في مهرجان "هيستيري" أدى فيه دور "هارون الرشيد": كتب "السادات" في يوم 20 فبراير عام 1948 قائلا: "استخف بنا الفرح بعد الحكم الابتدائي بالبراءة فنظمنا أمس لأول مرة مهرجانا نفسنا فيه عن نفوسنا، وكم يطيب لي أن أروي في هذه الصفحات وصفا لهذا المهرجان الهستيري لعلي أتمتع بقراءته في الخارج في يوم من الأيام". وتابع: "كان المهرجان سهرة في قصر هارون الرشيد، واشتركنا جميعا في وضعه وتمثيله وإخراجه والاستمتاع به في آن واحد"؛ وأدى "السادات" دور الخليفة "هارون الرشيد".