لا تزال مسألة «الرَّقِّ في الإسلام» تثير عددًا من الأقلام الموتورة، لا لغرض سوى إثارة الضَّجيج في ساحات المجتمع الفكرية؛ حتى إذا ظهر من يجيب عن استشكالاتهم، فرُّوا بسرعة البرق، واضعين أصابعهم في آذانهم؛ خشية أن يدركهم جواب مُسكِت، أو رأي علمي سليم. ولعلنا إذ نعالج هذا الموضوع الواضح في ذهن كلِّ طَموح إلى المعرفة، لا نُلاحق هؤلاء لنُسمِعَهم ما لا يحبون، ولكنَّا نصقُل وجه الحقيقة؛ ليعود إليها بريقها، بعدما عَدَت عليها غاشية الضَّباب بفعل سحائب الشُّبهات. لقد عمِدَت الشريعة الإسلامية إلى كلِّ فعل لا يتَّفق مع الفطرة الإنسانية كالسرقة والقتل فحرَّمت أصلَه تحريمًا شاملًا، وأمرت أتباعها بالابتعاد عنه وتناسيه بالكلية. فإذا كان الفعل في أصله من الغرائز الراسخة في فطرة الإنسان وتكوينه كالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة نظرت إليه الشريعة نظرة احترام ورعاية، فجعلت الأصل فيه الحِلّ، والحرمةَ طارئةً لحالات استثنائية، تتعلَّق بما يعكر صفو هذه العلاقة من مفاسد، كاختلاط الأنساب، وضياع المسؤوليات التي يقوم عليها وجود الأسرة، وعدوى الأمراض الخبيثة، وغيرها. وقد حافظ الشرع الشريف على هذه العلاقة الفطرية ضدَّ المفاسد المذكورة: بإقامتها تحت مظلة عقد واضح الشروط، مستكمل الأركان، يضمن تحمُّل كلٍّ من الطرفين لآثار العلاقة ومسؤولياتها، فحيثما تحقق هذا التعاقد، فالعلاقة سائغة مبرورة شرعًا. ومن هنا لم يفرِّق الإسلام بين عقد الزواج، وعقد التسري؛ إذ كلاهما عقدان قائمان على هذه الضوابط، فالمرأة في الحالتين مرتبطة برجلها الواحد، ترعى حقه عليها في بيته وماله، والرجل في الحالتين قائم بمسؤولياته تجاه امرأته أمَةً كانت أو زوجة فما تلده يُنسَب إليه، وهو مأمور بالإنفاق عليها وعلى أولادها ورعايتهم حق الرعاية. بل تزيد الأمة على الحرة بأنها إذا وضعت مولودها الأول تسمى: «أمَّ ولد»، فلا يجوز بيعها ولا التصرف فيها، وليس بينها وبين التحرُّر إلا موت سيِّدها، الذي هو منها بمنزلة الزوج. ولست أدري بعد ذلك ماذا يقول من يفصل بين التسرِّي والزواج قَسْرًا، ليوهم الناس أن التسري لون من ألوان الدِّعارة الممقوتة؟! فأي فارق يراه هذا المحترم بين الزواج والتسري في الحقوق والضمانات التي تحفظ العلاقة الجنسية عن المفاسد؟ وأي صلة يراها بين التسري والدعارة، التي لا ينتج عنها إلا ضياع النَّسَب، وفساد الأسرة، وانتشار الأدواء؟ ربما كانت المشكلة في أن الرجل يحق له التسرِّي بأكثر من أَمَة، بينما لا يحق للمرأة أن تفعل ذلك مع من تملكهم من الرقيق؟ والحق أنَّ أي فلسفة سليمة إنما تنطلق من مبدأ التضحية بالمتعة في سبيل تحقيق المصلحة، وليس العكس، إذ المريض العاقل لا يضحي بحياته فيترك الحِمْية، من أجل الاستمتاع بالطعام الذي يشتهيه، فإذا ما طُبِّق هذا المبدأ على مسألتنا؛ وجدنا أن ممارسة المرأة لمتعتها في الاقتران بأكثر من رجل، تتعارض مع المصالح الاجتماعية كإثبات لنَّسَب، وتنظيم المسؤولية عن رعاية الصغار، في حين لا يترتب على ممارسة الرجل لهذه المتعة أيُّ تهديد لهذه المصالح، إذا سار إليها وفق الضوابط الشرعية المعروفة، وهو عين ما قرَّرته الأنظمة الوضعية، والأعراف المجتمعية قديمًا وحديثًا. لعل المشكلة تكمن في نظام الرِّقِّ نفسه، إذ لا يصح في نظر البعض أن يقرَّ الإسلام نظامًا كهذا؟ على أنَّ الإسلام قضى تمامًا على عوامل الرِّقِّ التي تأتي من طرَف واحد كالرِّقِّ الناتج عن تراكم الديون مثلًا بأحكام قاطعة لا يملك أحدٌ إلغاءها أو تقييدها. أما الاسترقاق الناتج عن احتكاك طرَفين على أعقاب الحروب مثلًا فقد أدخلت الشريعة حكمه في باب: «أحكام الإمامة والسياسة الشرعية»، وهو ما يسمَّى في القانون الوضعي بالأحكام العُرفية، أو قانون الطوارئ، الذي يلجأ إليه الحاكم في ظروف استثنائية، فيقرِّر معاملة أسرى العدوِّ على وَفق العدالة الإنسانية، والمصلحة العامة. ودعونا الآن نسأل: لو أن دولة كإسرائيل، بلغ بها الحقد على أمَّتِنا مبلَغَه، فقرَّرت أن تسترِقَّ من تحت أيديها من أسرى العرب وهو احتمال ممكن عقلًا فما عسى قادة العرب أن يفعلوا بمن تحت أيديهم من الأسرى اليهود، بعد استنفاد جميع الوسائل الإنسانية دون فائدة؟ إنَّ أوَّل ما تدعو إليه بصيرة هؤلاء القادة، هو إعلان المعاملة بالمثل، وهو ما ينُصُّ عليه القانون الدولي، ولديه في ذلك مبرِّراته المحفوظة لدى الجميع، وقد قيل قديمًا: جرثومةُ الداء: عينُ الدَّواء. وهو عين ما نصَّت عليه الشريعة الإسلامية لا أكثر ولا أقل؟! وقد استمر القادة المسلمون يمارسون هذه الصلاحية طبقًا للعدالة والمصلحة، فلا يضربون الرِّقَّ على أسراهم إلا في أضيق حالات الضرورة التي كانت تنبعث من تصرفات أعدائهم، حتى وضع السلطان «محمد الفاتح» ما يسمى بقانون الحرب، فلم نعلم بعدها خليفة أو رئيسًا أو ملكًا مسلمًا قد استرقَّ أسيرًا على إثر حرب، بخلاف المجتمعات الغربية. إن المستغربين في بلادنا ينظرون إلى ما عليه الغربيون من الانحرافات الجنسية وشذوذاتها، فلا تأخذهم الدهشة، ولا يشعرون بالاستنكار، بل يرون ذلك بعيون سادتهم قضية شخصية، لا علاقة لها بالمقومات الحضارية أو الأخلاقية، لكنهم إذا نظروا إلى الحضارة الإسلامية ورجالها، وضعوا مسألة الجنس على ميزان آخر، يقضي بأنها أمر معيب مستقذر، يخالف الحضارة والإنسانية والقيم الأخلاقية، ولهذا السبب وحده فإن هذه الاستشكالات السخيفة وأمثالها لن تنقطع، وحُقَّ لها.