فى لقاء لعدد من المُهتمين بالشأن العام فى حفل لرؤساء النقابات المهنية دعى إليه نقيب الاجتماعيين أ. أسامة برهان، حيث أثيرت مسألة مشروع القانون الذى قدمه نائبان إسلاميان للسيطرة على المحكمة الدستورية العُليا، إما بإعادة تشكيل هيئتها بواسطة مجلس الشعب، أو بتقليص سُلطتها بحيث تتحول من رقيب على دستورية القوانين، إلى مُجرد «بيت خبرة» يستشيرها مجلس الشعب، عند صياغة مشاريع القوانين التى تتعلق بالنظام العام. وعلى غير العادة شارك فى هذا الحفل أحد نواب رئيس المحكمة الدستورية، وهو المستشارة تهانى الجبالى، وعميد كُلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهو د. محمود كبيش. وكُلما احتدم النقاش، وتصاعدت حدة غضب المجتمعين، تكشفت حقائق جديدة، وضح منها أن مُحاولة السيطرة على المحكمة الدستورية ما هى إلا حلقة من حلقات إخوانية مُتتالية للسيطرة الشاملة على كل مُقدرات المجتمع والدولة فى مصر، أملاً فى السيطرة على العالم بأشمله! ولا تضحك، أيها القارئ، فهذا ما صرّح به أحد الإسلاميين وهو الشيخ صفوت حجازى، دون مواربة أو احتشام. فبعد اختطاف ثورة، بدأها واستشهد فيها غيرهم من شباب مصر الطاهر، ثم تمرير تعديلات دستورية بإيهام بُسطاء المواطنين بأن الاستفتاء عليها ب «نعم» هو انتصار للإسلام، وأن «لا» تعنى كُفراً بواحاً، ثم اختطاف مجلسى الشعب والشورى، وها هم الآن يُريدون إما اختطاف المحكمة الدستورية، أو تقليم أظافرها. قد يقول مُدافع عن الإخوان إن النائبين اللذين قدما اقتراح تعديل قانون المحكمة الدستورية ليسا منهم، وإنما من حزب «النور» «السلفى». والرد على ذلك أن لجنة الاقتراحات، التى يُهيمن الإخوان على الأغلبية فيها، سارعت بالموافقة على الاقتراح بمشروع القانون المشبوه! وليست هذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها الإخوان نُظراءهم السلفيين كمخلب قط، يُنفذون به مقاصدهم. فإذا جاء رد فعل الرأى مُعاكساً، فإنهم يتبرأون من الاقتراح، ويتركون حزب النور يتلقى النقد والهجوم. فإذا تركنا توريط الإخوان للسلفيين جانباً، ورد الفعل العنيف من المحكمة الدستورية العُليا نفسها، ومعها مُعظم قطاعات الرأى العام المصرى، فإن السؤال هو: لماذا استهداف الإخوان للمحكمة فى هذا التوقيت، الذى يسبق انتخابات الرئاسة بأيام؟ جاءت الإجابة بأنهم يتوجسون من إعلان المحكمة بعدم دستورية الانتخابات النيابية الأخيرة، ومن ثم عدم شرعية مجلس الشعب بتشكيله الحالى، الذى يتحكم الإسلاميون فيه بأغلبية الثلثين. أى أن الإسلاميين أرادوا بضربة استباقية أن يتغدوا بالمحكمة، قبل أن تتعشى المحكمة بمجلسهم! ولأن الرأى العام ما زال يذكر الطريقة التى حاول بها الإخوان تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، بحيث يكون لهم فيها أغلبية مُطلقة، ولأنهم تعمدوا الاستئثار برئاسة كل لجان مجلس الشعب، بل بنواب رئاسة تلك اللجان، فقد أطلق خُبراء القانون الدستورى على هذا السلوك، ما سماه الفقيه الراحل عبدالرازق السنهورى «الانحراف الدستورى»، بينما أطلق عليه عُلماء السياسة «جشع السُلطة». بل ذهب بعض المُشاركين فى الاجتماع إلى استحضار سابقة سيطرة النازيين فى ألمانيا على البرلمان «البونتستاغ»، وفى أول فُرصة سنحت لهم أصدروا تشريعاً بحل كل الأحزاب اليسارية، بدعوى أن ولاءها الوطنى مشكوك فيه. ثم بعد عدة شهور، أصدروا تشريعاً آخر يحل محل الأحزاب اليمينية بدعوى أنها مُعادية للطبقة العاملة. وبذلك أخلوا الميدان السياسى من كل المُنافسين. وبعد ذلك اتجهوا للسيطرة على كل البُلدان المُجاورة «النمسا - هولندا - بلجيكا - وبولندا»، وكان ذلك بداية الحرب العالمية الثانية، التى كلّفت البشرية ما يقرب من مائة مليون ضحية «بين قتيل وجريح». وكان ما حدث فى ألمانيا النازية، ثم فى روسيا الشيوعية، من أسباب الغوص فى دراسة الأيديولوجيات «الشمولية» (Totalitarianism). فما هى الأيديولوجيات الشمولية؟ إنها تلك الأنساق الفكرية المُترابطة لإعادة فهم الفرد، والمجتمع، والعالم، وإعادة صياغتهم من أجل تحقيق «الجمهورية الفاضلة»، أو «جنة الله على الأرض». فهل ينطبق ذلك على الإخوان المسلمين خصوصاً، وعلى الإسلاميين عموماً؟ والإجابة هى «نعم». فالإخوان المسلمون لديهم مشروع مجتمعى شامل لبعث «الخلافة الراشدة»، التى أسسها الرسول محمد «صلى الله عليه وسلم»، واستمرت خلال العقود الأربعة بعد وفاته. فتلك الحقبة، فى نظرهم هى «العصر الذهبى» للإسلام وللمسلمين. وينسى أو يتناسى المُروّجون لذلك العصر الذهبى، أن ثلاثة من الخُلفاء الراشدين «الأربعة» قد ماتوا قتلاً، على أيدى مسلمين آخرين من الصحابة والأنصار، وأن الصراع على السُلطة بين السلفيين كان منذ اليوم الأول لوفاة الرسول «فى سقيفة بنى ساعدة». صحيح أن ذلك الصراع المبكر على السُلطة، بين الصحابة من المُهاجرين والأنصار، تم احتواؤه بحكمة أبى بكر الصديق «الخليفة الأول»، ثم بقوة شخصية عُمر بن الخطاب «ثانى الخلفاء»، إلا أنه انفجر فى أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وطوال عهد الخليفة الرابع، على بن أبى طالب، بل عرف المسلمون الأوائل أسلوب استخدام الدين للتغلب على الخصوم والمُتنافسين السياسيين، مثلما فعل عمرو بن العاص، مندوباً عن مُعاوية بن أبى سُفيان، برفع المصاحف على أسنّة الرماح لوقف معركة كانوا على وشك الهزيمة فيها، على يد أنصار سيدنا على بن أبى طالب. وكان الأمر «خِدْعة». وهكذا عرف المسلمون، ومارس بعضهم، توظيف الدين فى أمور السياسة منذ أربعة عشر قرناً، أى على امتداد التاريخ الإسلامى كله. وما يفعله الإخوان المسلمون، منذ رفعوا شعار «الإسلام هو الحل»، هو توظيف الدين لأغراضهم السياسية، وأهمها الفوز فى الانتخابات سواء كانت النيابية أو الرئاسية. ومن ذلك أيضاً ما كشفت عنه سلوكياتهم وتصريحاتهم منذ ثورة يناير المجيدة. ففضلاً عن أنهم لم يلتحقوا بصفوف الثورة إلا بعد خمسة أيام من بدايتها، وبعد أن تأكدوا من التفاف الشعب حولها، وأنها ستنجح بهم أو بغيرهم. فإنهم حاولوا اختطاف الثورة، على أقساط. فقالوا فى البداية إنهم لن يُرشحوا لعضوية مجلس الشعب سوى ثلاثين فى المائة، وظلّوا يرفعون من هذه النسبة حتى وصلت مائة فى المائة. وفعلوا الشىء نفسه بالنسبة لمنصب رئيس الجمهورية، ففى البداية قالوا إنهم لن يترشحوا للتنافس عليه، ولكن حينما اقترب الموعد، سال لُعابهم للاستئثار به. بل رشحوا له الدكتور محمد مُرسى! إننا لا نُعارض، من حيث المبدأ، أن يتنافس أى حزب، أو فرد، أو جماعة من أجل السُلطة أو للفوز بأى منصب سياسى، مادام ذلك يتم طبقاً للقانون والقواعد والأعراف، وفى شفافية تامة، ودون احتكار أو استئثار. لقد كُنت أحد الذين دافعوا عن حق الإخوان المسلمين للمُشاركة فى العمل العام سواء فى عهد الرئيس عبدالناصر، أو الرئيسين السادات ومُبارك. وكان ذلك أحد أسباب غضب هؤلاء الرؤساء، وتنكيل اثنين منهما بشخصى المتواضع. ولكن كما دافعنا عن حقهم فى الحُرية والمُشاركة، وهم مضطهدون، فإننا نُطلق صفارات الإنذار ضد نزعاتهم الاستئثارية وهم يحكمون. فليتعلم الإخوان من تاريخهم وتاريخ غيرهم أن يحتشموا، وأن يعدلوا. فالاحتشام فضيلة، والعدل أساس الحُكم الصالح. وعلى الله قصد السبيل نقلا عن المصرى اليوم