يتماهى الإسلامي مع العثماني في الثقافة التركية. فالإمبراطورية العثمانية ليست سوى امتدادا للخلافة الإسلامية التي انتقلت القيادة فيها من العرب إلى الترك. وهذه الامبراطورية العثمانية-الإسلامية تعرضت لعملية إذلال كبرى من مصر-على يد محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا، حيث احتلت جيوشهما مناطق واسعة في جنوب وغرب تركيا الحالية وهددت اسطنبول نفسها بالسقوط ومنذ أواسط القرن الثامن عشر شكلت مصر حالة متميزة في صراعها مع المركز الإمبراطوري الذي يبدو أن احفاده الحاليين ورثوا عنه مشاعر الحقد والكراهية التي نراها حاليا ولا نبالغ إذا قلنا أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان هو أكثر القادة الأتراك في التاريخ الحديث، عداءً للعرب وللعروبة وتركيا العلمانية التي اصطفت خلال حقبة الحرب الباردة في قلب حلف شمال الأطلسي، وتضاربت مصالحها مع سورياوالعراق خصوصًا، ومن منطلق العداء للاتحاد السوفيتي وليس للعرب. لكن تيار "الإخوان المسلمين" التركي الذي يقوده أردوغان وينظر لسياساته الخارجية، الأكاديمي أحمد داوود أوغلو، له أسبابه الخاصة لانتهاج سياسة معادية في الجوهر للعرب، حتى لو تغيرت تلك السياسة عبر سلسلة من المواقف التضامنية التي بقيت في مجال الدعاية والإعلام ولم تتحول يوما إلى عمل ملموس يد تركيا الأردوغانية موجودة في كل الساحات التي خربها الربيع الزائف، تضرب فيها متسلحة بتمويل قطري لم يتوقف هذا دون أن ننسى التحالف الصامت مع الكيان الصهيوني والذي يقال أن الماسونية العالمية هي التي نسجت خيوطه وتستمر في تعزيزه. انفلت الجنون التركي مؤخرا، إثر الهزائم العديدة والقاسية التي مني بها، من إسقاط نظام "الإخوان" في مصر إلى الفشل الذريع في إسقاط النظام السوري ومن ثم الفشل في إسقاط حكومة المالكي. ومع فائض "الإرهاب" في الداخل التركي الذي تحول قواعد خلفية ولوجستية للمنظمات التكفيرية، فجر العثماني إردوغان جام غضبه في العراق من خلال تحالف خسيس مع "داعش"، التي أوكل إليها أمر الشروع في تقسيم العراق ومنعه من النهوض كدولة قوية وذات موارد جبارة إن كل المؤشرات تشير إلى دور تركي تفصيلي، على الصعيدين العسكري واللوجستي، في تمكين "داعش" استنادًا بالطبع إلى تمويلٍ قطري هذه المرة. أما حكاية أسر "داعش" لأتراك في كركوك فليست سوى مسرحية استخباراتية أريد منها ذر الرماد في العيون، مخافة أن تفشل "داعش" في بسط سيطرتها فعليًا على الأرض. ومع أن موضوع "داعش" هو موضوع إقليمي، يمكن تمييز جملة من الأهداف والمصالح التركية المباشرة من وراء حركتها. فمن جهة يريد إردوغان الانتقام من المالكي الذي حرمه من التوسع الاقتصادي في العراق، حيث كانت أنقرة تأمل في السيطرة الواسعة على عدد كبير من القطاعات الاقتصادية، تمهيدًا لنفوذ ودور سياسيين. ومن جهةٍ أخرى فإن الأطماع التركية في الموصل وكركوك لا تزال حية ومعروفة، حيث تزعم أنقرة أن كركوك، الغنية بالنفط، ذات غالبية تركمانية، ولتركيا حق سيادي عليها وتريد استرجاعها. ومع أن "نزول" البيشمركة الكردية إلى الموصل وكركوك واحتلالهما، يبدو متناقضا مع هذه المصالح التركية، إلا أن عددا من المصادر تؤكد على قيام تفاهم تركي-كردي تدعم أنقرة بموجبه استقلال كردستان، على أن يوافق رئيس كردستان العراق مسعود البرزاني على جعل "دولته" هذه "وطنًا بديلًا" لجميع الأكراد. وبهذه الطريقة ينقل إردوغان أكراد تركيا إلى الدولة العتيدة ويحل بذلك مشكلته التاريخية مع أكراد تركيا، بدل منحهم الحكم الذاتي أو الاستقلال كما يطالبون وفي سياق هذه المصالح والأهداف، يجب فهم الدور التركي المحموم حاليًا على خط مساعي تقسيم العراق الذي افتتحته "داعش"، من خلال سيطرتها السريعة والمفاجئة على مناطق واسعة قادرة على تشكيل دولة "سنية"، مدعومة خارجيًا، بحيث تكرُ السبحة بإعلان استقلال كردستان، ما يعني بقاء الجنوب الشيعي مجالًا لدولة ثالثة كلّ ذلك يندرج بشكلٍ واضح في إطار تحقيق مشروع تقسيم المنطقة لبناء شرق أوسط جديد، قائم على أساس دويلات مذهبية تشبه في طبيعتها الكيان الصهيوني، وتفتح الباب واسعا أمام الاعتراف بيهودية "دولة إسرائيل"، ومن ثم تهجير الفلسطينيين منها وتصفية قضيتهم بشكل نهائي وعندما أزالت "داعش" الحدود الإستعمارية بين سورياوالعراق، لإقامة دولتها، لم يكن ذلك فعلًا وطنيًا وقوميًا هادفًا إلى توحيد الأمة. بل هو خطوة أولى في مشروع التقسيم والتفتيت عبر تفتيت الخريطة القائمة وإعادة تشكيلها على أساس وحدات متجانسة، قبليا أو مذهبيا. غير أن هذه الخطوة الخطيرة للغاية لا يتوقع لها الصمود بسبب تضاربها مع مصالح عدة دول إقليمية من بينها إيرانوسوريا وباعتقادي فإنه خلال وقت غير طويل، سيكتشف إردوغان مجددا، ومعه قطر، أن مشاريعهما ستنقلب عليهم وترتد إلى داخل بلدانهم، فالمليارات القطرية والاستخبارات التركية لم تفعل سوى إشعال الحرائق وتعميم الدمار. لكن ألسنة اللهب لا تقف عند حدود، والرياح الحالية ستعيدها إلى منابعها.