ينشر موقع "صدى البلد" نص كلمة الامام الاكبر الدكتور احمد الطيب فى احتفال ليلة القدر فى حضور رئيس الجمهورية وقيادات الدولة وبعض سفراء الدول العربية والاسلامية.. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد فإنَّ الاحتفاءَ بليلةِ القدرِ والاحتفالَ بها هو احتفالٌ بالقرآن الكريم الذي نزَل في هذه الليلةِ: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ". وهو احتفاءٌ بمولدِ أُمَّةٍ عظيمةٍ بدأ تكوينُها على هدى من نورِ هذا القُرآنِ، وتأسَّست على يدي رسولِها الكريم - صلى الله عليه وسلم - وعلى أيدي رجالٍ مُخلِصين من حوله، وأصبح القُرآنُ الكريمُ الذي أضاء قلبَ محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلكم العَهدِ الغابر يُضيءُ الآن قلوبَ أكثرَ من مليارٍ ونصف من أبناءِ الإسلام. لقد ظل هذا القُرآن الذي بدأ نزولُه في ليلة القدر صامدًا في لغته العربيَّةِ وإعجازه أكثرَ من أربعة عشر قرنًا من الزمان دون أن يتغيَّر منه حرفٌ أو تتبدَّل فيه كلمةٌ، وبيقين أنَّ البشريَّةَ لا تعرفُ نصًا إلهيًّا يقرؤه الناسُ ويفهمونه ويحفَظُونه عن ظَهرِ قلبٍ، كما كان يقرؤه ويحفظُه أسلافُهم قبلَ ألف وأربعمائة عام غير القرآن الكريم، كما لا تعرف البشرية حضارة لا تزال حية متحركة حتى اليوم، غير حضارة الإسلام والمسلمين.. ولا ينبغي أن تتفرق بنا السبل ونحن نبحث عن أسباب القوة العالمية الكامنة في هذه الأمة كمون النار تحت الرماد، إنه القرآن الكريم الذي نعيش الليلة في ذكرى نزوله في ليلة القدر من هذا الشهر الكريم.. هذا القرآن الكريم الذي صاغ شريعته على أصول أخلاقية وحضارية عابرة لحدود الزمان والمكان، ومستجيبة لتغيرات الظروف والأحوال، وكان من أهم الأصول والمبادئ التي تأسست عليها هذه الشريعة الغراء بعد -التوحيد- مبدأُ المساواة بين الناس، والتعارف بين الشعوب والقبائل، والتسامح مع الملل والشرائع الأخرى والمذاهب والفلسفات، وإنهاء كل أشكال العصبية والعنصرية الكاذبة، وأسطورة التمييز بين الناس على أساس من الدين أو العرق أو الطائفة أو المذهب، ولم يلبث نبى الإسلام - صلى الله عليه وسلم - أن أعلن عن هذا المجتمع الموبوء بكل هذه الأمراض الاجتماعية أن الناس سواسية كأسنان المشط وأن "الناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب". ثم هتف فيهم بالبيان الإلهي الحاسم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {49/13}" وهو البيان الذي أقر التعارف والتعاون على البر والتقوى مبدأ وحيدًَا للعلاقات الإنسانية بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم.. وحرَّر العبيد والأرقاء في مجتمعات كان الرق فيها يشكل نظاما اجتماعيا وضرورة حياتية لا مفر منها لاستقرار المجتمعات ونظمها وأعرافها.. وجعل من الرحمة فلسفة عامة للحياة بكل عوالمها الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن الرحمة العامة هي المقصد الإلهي الأعلى من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {21/107}"، وهو صلى الله عليه وسلم يقدم نفسه للعالم على أنه رحمة أهداها الله للناس، فيقول: "إنما أنا رحمة مهداة". أيها الحفل الكريم! لقد تميزت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بميزتين تفردت بهما من بين سائر الأمم، هاتان الميزتان هما: الغلبة والصمود، فقد حدثنا التاريخ أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضعفهم، وفقرهم، وقلة حيلتهم وافتقارهم إلى المال والسلاح، هزموا أعظم دولتين متنافستين في ذلكم الوقت، وهما دولة الفرس والروم، أو دولة الأكاسرة ودولة القياصرة، ولم يكن معهما دولة ثالثة في العالم يخيف الفرس والروم أو يُحسب لها الحساب في ذلكم الوقت.. هاتان الدولتان هُزمتا معًا أمام جيش المسلمين القليل عددًا والفقير عدة وعتادًا، ولما يمض على تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة بضع سنوات معدودات.. وقد ذهب المؤرخون في تفسير هذه الظاهرة التاريخية المدهشة، مذاهب شتى لا يتسع المقام لذكرها، غير أن قليلاً منهم لفت الأنظار إلى أن القرآن الكريم هو من وراء هذه المعجرة التي لا يعرف التاريخ لها نظيرًا، حيث بنى عقول المسلمين وأرواحهم على عقيدة شاملة جعلت من الإسلام – فيما يقول عملاق الأدب العربي: العقاد([1]) - "هو العقيدة بين العقائد، أو هو العقيدة المُثلى للإنسان منفردًا أو مجتمعًا، وعاملاً لروحه أو عاملاً لجسده، وناظرًا إلى دنياه أو ناظرًا إلى آخرته، ومسالما أو محارباً، ومطيعاً حق نفسه أو مطيعًا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلمًا وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلماً لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى". وكما كانت غلبة المسلمين في ضعفهم على أعتى الدول وأقواها أمرًا عجباً، كان صمودهم على مئات السنين من أعجب العجب، بل كان ظاهرة حضارية متفردة طالما استعصت على قواعد التفسير التاريخي وقوانينه، فهذه القوة الإسلامية التي انتشرت في العالم القديم انتشارًا سريعاً ظلت كامنة في وجدان هذه الأمة إلى يوم الناس هذا، وكانت هي الشرارة التي تبعث هذه الأمة من جديد كلما تكالب عليها الغزاة والمتآمرون. نعم هناك دول إسلامية قامت ثم انهارت أمام دول منافسة من أبناء دينها أو من أبناء الأديان الأخرى، ونحن نعلم أن المسلمين خرجوا من الأندلس، وسقطت دول في دمشق وبغداد وغيرهما وجاءت دولة الأستانة ثم تصدعت وقسمها الغرب فيما يعرف بتركة الرجل المريض، وتوالت الضربات الموجعة على جسد هذه الأمة قبل أن يطبق عليها المستعمرون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم ينقض هذا القرن حتى خُيّل للناس أن أمة العرب والمسلمين لن تقوم لهم قائمة بعد أن حرموا "القوة والعلم"، فكيف لهم بمقاومة من قبضوا على أسباب القوة والعلم والحضارة.. ولكن ما إن انتهى العقد السادس من القرن الماضي حتى تراجع الاستعمار ولملم شباكه، وحمل عصاه ورحل، وتراجع بجيوشه وأسلحته أمام صمود المسلمين على قلة مالهم وسلاحهم. واليوم يعود المستعمرون بخطة غدرٍ جديدة، تقوم على إثارة الخلافات والنعرات، الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية، لتفتيت عالمنا العربي وتقسيمه وتجزئته، ووجدوا من بيننا من ينفخ في نار هذه الفتن ممن هانت عليهم أوطانهم، وخانوا أماناتهم، وباعوا أنفسهم للشيطان، فعمدوا إلى هذا الدين الحنيف الذي هو دين الرحمة والأمن والسلام والتَّعارف والتراحم بين الناس، فعبثوا بأصوله وثوابته التي أجمعت عليها أمة المسلمين على مدى أكثر من ألف وأربعمائة عام، فغيروا وبدَّلوا في مفاهيم الكفر والجهاد والخلافة، وهم الجهلاء الذين لم يُعرف لهم تاريخ سابق في العلم، ولا قدم ثابتة في فهم الدين ولا تلمذة في معاهده أو على أيدي علمائه المعتمدين. وهؤلاء ما كان لهم أن يكونوا شوكة في جنب الإسلام وحلوق المسلمين، لولا هذه المؤامرات التي تصنعهم وتحركهم من خلف ستار ومن وراء البحار، بدعم من سماسرة من بني جلدتنا ممن تنكروا لعروبتهم ومبادئ دينهم لإمداد الخارجين على أهليهم وأوطانهم بالمال والسلاح والعدة والعتاد.. ولينطلقوا في موجة شيطانية من موجات العنف والقتل والتكفير والتفجير وإراقة الدماء، متنكبين النهج الذي أجمع عليه المسلمون قاطبة من حرمة الدماء وعصمتها وعصمة الأنفس والأموال والأعراض. ولايزال دماء شهدائنا وآخرها دماء جنودنا وأبنائنا الذين قضوا نحبهم وهم صائمون، مرابطون على أرض الوادي الجديد شاهدة على أن هؤلاء المجرمين قد تجاوزوا كل حدود المروءة والشهامة، قبل أن يتجاوزوا حدود الدِّين والخُلُق والإنسانية. ولا يظن هؤلاء العابثون أنهم معجزون في الأرض، "وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {12/21}"، . وقبل أن أختتم كلمتي أُذكّر العرب والمسلمين بقوله تعالى: " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ " (3/103) "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {8/46}". لأؤكد على أن الكيان الصهيوني ما كان ليجرؤ على هذه المجازر الوحشية والإبادة الجماعية لشعب غزة الأعزل وسط صمت العالم الذي يزعم أنه حر، لو أن العرب كانت لهم كلمة واحدة وكانت فلسطين على قلب رجل واحد وتحت راية موحدة.. وعلى هذا الكيان المتغطرس الذي يتحدى مشاعر العرب والمسلمين والعالم الحر ان القضية الفلسطينية ليست حكراً على الشعب الفلسطيني الصابر بل هي القضية الأولى للعرب والمسلمين في المقام الأول، وأنه لا تفريط فيها ولا مساوامة وإن طال الزمن وعظمت التضحيات . نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ العرب والمسلمين ويحفظ مصر الكنانة من كل شرٍ ومن كل سوء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته