جاء رمضان فجاء الخير أجمعه ... ترتيل ذكر وتسبيح وتحميد فالنفس تثاب في قول وفي عمل ... صوم النهار وبالليل التراويح جاء شهر رمضان شهر الصبر شهر المغفرة شهر الصفح شهر العفو . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وفي رواية: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي" وفي رواية للبخاري: "لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا الذي أجزي به" وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه: "كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به". فرمضان له خصائص منها : (1) شهر تضاعف فيه الأعمال . ومن المعلوم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب: منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" . ومنها: شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ففي الترمذي عن أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: "صدقة في رمضان" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل بحجة" أو قال: "حجة معي". وكان السلف إذا حضر شهر رمضان انبسطوا فيه بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله . وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر منها شرف العامل عند الله وقربه منه وكثرة تقواه كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم وأعطوا كفلين من الأجر. وقال في حق أزواج النبي ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين. (2) يفرح فيه الصائمون بطاعتهم. قال صلى الله عليه وسلم: "وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه". أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله وطاعة له ويبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين ولهذا نهى عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك. وفي الحديث: "إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها" وربما استجيب دعاؤه عند ذلك . فالصائم في ليله ونهاره في عبادة ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره فهو في نهاره صائم صابر وفي ليله طاعم شاكر وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته فيدخل في قول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] ولكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال فإن كان فطره على حرام كان ممن صام عما أحل الله وأفطر على ما حرم الله ولم يستجب له دعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يطيل السفر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك. وأما فرحه عند لقاء ربه: فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20] وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران: 30] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7, 8] وقد تقدم قول ابن عيينة: أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من عمل يوم إلا يختم عليه" وعن عيسى عليه السلام قال: إن هذا الليل والنهار خزانتين فانظروا ما تضعون فيهما فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة. (3) أن الصيام يعوّد المسلم على الصبر والتحمل والجلد. لأنه يحمله على ترك محبوباته وشهواته، ومعلوم أن كبح جماح النفس فيه مشقة عظيمة، ولهذا كان الصوم من أقوى العوامل على تحصيل أنواع الصبر الثلاثة، وهي صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله، ومتى اجتمعت أدخلت العبد الجنة بإذن الله؛ قال - تعالى -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر : 10]. (4) الصيام يساعد المسلم على التغلُّب على نفسه الأمَّارة بالسوء. فهي دائمًا تدعوه لانتهاك المحرَّمات، والإقبال على الشهوات، لكن الصوم يفوت عليها الفرصة؛ إذ يكسر حدة الشهوة، فيضعف سلطانها، فهل وعى ضعفاء النفوس ممن لا هَمَّ لهم إلا الشهوات أن ينظروا: هل أثَّر الصيام فيهم أو لا؟ وهل كان رادعًا لهم عن الوقوع في المعاصي أو لا؟ (5) أن الصيام يضعف مجاري الشيطان، وبالتالي يضعف تسلطه على المسلم، ويبحث عن مركب سهل يحقق من خلاله أهدافه ومآربه، ومتى أطلق المسلم لشهواته العنان، تمكن الشيطان منه وأخذ بيده لما يريد به من الضلال والحرمان من الخير. ورحم الله أمير الشعر أحمد شوقي عندما نظم نثرا في الصيام فقال: "الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع... لكل فريضة حكمة وفرض الصوم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة. يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويكسر الكِبر، ويعلم الصبر ويَسُنَّ خلال البِرْ حتى إذا جاع من ألِفَ الشبع، وحُرِم المترف أسباب المُتَعْ، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع".