تعير الدول انتباهاً كبيراً لتوزيع القوة فيما بينها، وتسعى قدر استطاعتها لتعظيم نصيبها من القوة العالمية، وتظل ماضية في طريقها بحثاً عن الآليات والاستراتيجيات الناجعة، التي تمكنها من حيازة القوة التي تعد محور الارتكاز في تحديد مسار العلاقات الدولية، لكونها إحدى أهم الوسائل والأدوات التي تستخدمها الدولة في تحقيق أهدافها ومصالحها، وبلوغ غاياتها وأهدافها. وتبعاً لذلك، فإن تحقيق المصلحة القوميةللدولة، يتطلب أن تمتلك الدولة قدراً كبيراً من القوة لكي تعينها وتمكنها من بلوغ وإدراك الغايات المنشودة، وبهذا تصبح ثنائية القوة والمصلحة، هدفًا ووسيلة، تربط كلا منهما بالآخر روابط وأواصر وشيجة، فمصلحة الدولة تقتضي أن تكون قوية لحماية كيانها ووحدتها وسلامة أراضيها وأمنها وتحقيق جل أهدافها، ولن تتأتى تلك الغاية إلا بامتلاك القوة التي تعد الأداة المثلى في تحقيق أهداف الدولة ومصالحها العليا. هذه الجدلية يستشف منها وجود علاقة طردية بين القوة وتحقيق المصالح، إذ كلما زاد أحدهما بمقدار معين يزيد الآخر بزيادة تتناسب مع زيادة الأول، والعكس صحيح. فالقوة هي وسيلة لتحقيق المصالح، إذ لا مصالح بدون قوة قادرة على تحقيقها أو حمايتها على أرض الواقع، فهي غاية تنشدها الدول لحماية مصالحها. والمصلحة هي الأخرى غاية ووسيلة في آنٍ واحد، فهي غاية بقدر ما تسعى كل دولة إلى تحقيقها، وهي وسيلة لأن تحقيق المصالح يسهم بالمحصلة في زيادة قوة الدولة. وهكذا كلما حققت الدولة مصالحها كانت قوية، وكلما كانت الدولة قوية تمكنت من تحقيق مصالحها. ويدور مفهوم القوة في السياسة الدولية عادةً في إطار وصفه بالقدرة على جعل الآخرين يستجيبون طواعية أو يذعنون قسراً لما يراد منهم الإقدام عليه أو الامتناع عنه،بحيث تجبر القوة طرفاً ما على الانصياع والإذعان لمشيئة وإرادة الطرف الآخر، في إطار وخيارات محددة، يخطها ويرسمها الطرف القوي، مروراً بعدة مستويات ومراحل، تبدأ بالإقناع، مروراً بالتأثير الاقتصادي، وانتهاءً بالإجبار القسري. ويشير مفهوم القوة بصيغته المجردة إلى بيان حالة نظرية ومقارنتها مع حالات أخرى، وفق عناصر ومكونات تقبل القياس والمقارنة. وبالتالي، فليس صحيحاً ما قد يبدو لأول وهلة من أن مفهوم القوة التي تحدث التوازن ينصرف إلى القوة العسكرية فحسب، لأن هذا التصور، تصور خاطئ وفهم قاصر قد جانبه الصواب، من دون إغفال أن القدرات العسكرية للدولة هي الصورة الأكثر وضوحًا في التعبير عن قوتها في المجال الدولي. بل إن المفهوم الصحيح للقوة يمتد ليشمل مجموع القدرات التي تمتلكها كل دولة على حدى، كالقدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية والبشرية وغيرها، والتي تؤثر في بعضها البعض، وتعد عاملاً لتحقيق سياسة الدولة في العلاقات الدولية والمجتمع الدولي، وترسخ مفهوم مقومات الدولة المادية والمعنوية، لأن القوة العسكرية في حد ذاتها لا تكفي لخلق حالة من التوازن، لأنها إن وضعت بين أيدٍ ضعيفة وإرادة سياسية غير صارمة، فإن الطرف القوي سيصبح قليل التأثير، ولا يمكن حسابه ضمن موازين القوى. وتأكيداً على ذلك، تستند القوة بشكل عام على امتلاك الدولة لعناصر أساسية، تتعلق بالخصائص والموارد والقدرات والمؤسسات، التي تشكل بمجموعها المقدرات القومية للدولة، وهو ما يعرف في أدب العلاقات الدولية بعناصر قوة الدولة، أي حجم ومستوى الإمكانات المتاحة للدولة، التي تمكنها من فرض خياراتها على الآخرين، وفقًا للوجهة التي تخدم مصالحها. وتظهر هذه العناصر بأشكال متعددة ومتنوعة،كالاعتبارات الجغرافية من حيث الموقع والمساحة والتضاريس، وعدد السكان، والموارد الطبيعية التي تدخل في حوزة الدولة، والقدرات الاقتصادية، والقوة العسكرية، وكفاءة المؤسسات السياسية والدبلوماسية والدعائية، والبنية التكنولوجية، والفعاليات الثقافية، والحالة المعنوية للشعب وغيرها. وتوضيحاً لذلك، يمكن أن نذكر على سبيل المثال، أن عدد سكان الدولة وثروتها هما ركيزتين ودعامتين أساسيتين في بناء قوة الدولة، فلا يعقل أن تصبح من الدول العظمى تلك الدول قليلة الكثافة السكانية ومحدودة الموارد والثروة، إذ أن القوى العظمى تحتاج إلى جيوش ضخمة لا يمكن حشدها إلا في الدول ذات الكثافة السكانية العالية. كما يترتب على ذلك نتيجة في غاية الأهمية وهي أن الكثافة السكانية – إن تم استغلالها على النحو الأمثل – ستؤدي إلى تحقيق نتائج اقتصادية هائلة لأن عدد السكان الكبير يستطيع أن ينتج ثروة كبيرة، خاصة في ظل امتلاك الدولة لعنصري التقنية الحديثة والمساحة الجغرافية وغيرها من عوامل القوة الأخرى التي تساند بعضها بعضاً. وهذا الأمر يفسر لنا سبب قلق الولاياتالمتحدةالأمريكية من الصين، والذي لا يعزى إلى قوتها العسكرية، التي لا تزال ضعيفة نسبيًا مقارنة بالقدرات العسكرية الأمريكية، وإنما لأن الصين لديها كثافة سكانية كبيرة، وهي تحسن استغلال العنصر البشري، إلى جانب اقتصادها المتنامي بصورة كبيرة ويأتي في المرتبة الثانية عالمياً، بعد الولاياتالمتحدة، وامتلاكها التقنية العلمية والعديد من عناصر القوة. وبالتالي فإن استمرار الصين في نهجها القائم سينتهي بها يوماً إلى التحول لقوة عظمى، تماثل الولاياتالمتحدة، اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً … الخ. والأمر ذاته ينطبق على اليابان، والتي تصنف ضمن الدول ذات القدرات العسكرية المحدودة، مقارنة بغيرها من الدول الكبرى، ولكنها تتمتع بتأثير اقتصادي قوي في العلاقات الدولية، نتيجة لتأثير إمكاناتها الاقتصادية على العالم، لا سيما العالم الثالث، وبدون القوة العسكرية يزداد تأثيرها الإقليمي بشكل متسارع، ويقوم على علاقتها الاقتصادية، وعلى قدراتها في قيادة آسيا والباسيفيكي في مجال التنمية الدولية. وعلى الرغم من تداخل عناصر القوة وتشابكها، لتشكل بمجموعها عوامل القوة الشاملة للدولة، فإن العبرة تكمن أولاً وأخيراً في كيفية استعمالها واستغلالها على النحو الأمثل بكفاءة واقتدار عند تعرض الدولة لأي ضغوط خارجية، أو لأي عدوان أو خطر وشيك، أو أثناء قيام هذه الدولة بفرض نهجها وقيمها على ما عداها من الدول الأخرى، فمن هذا المنطلق تتم على نحو سليم عملية تقييم القوة ومدى تأثيرها.