للمرة الثانية على التوالي، خالد عامر نقيبا لأطباء أسنان الشرقية    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    أخبار الاقتصاد: البورصة في فترة تصحيح وضريبة الأرباح الرأسمالية سبب تراجع المؤشرات، والأسهم الأوروبية تتلون بالأحمر في ختام حركة التداولات    ذوي الهمم والعمالة غير المنتظمة وحماية الأطفال، وزارة العمل تفتح الملفات الصعبة    وزيرة التخطيط تشارك بمنتدى التمويل من أجل التنمية    زلزال قوي يضرب تايوان    رئيس بعثة الزمالك في غانا يجتمع مع طبيب الفريق ودكتور التغذية (صور)    مصرع شخص وإصابة 8 آخرين في حادث تصادم سيارة بعمود بالطريق الزراعي بأسيوط    بدرية طلبة تكشف سر حضور "حسن" صاحب واقعة عزاء شيرين سيف النصر لزفاف ابنتها    أخبار الفن اليوم: مي فاروق تحرر محضرا ضد طليقها.. ومها الصغير تعلق على أنباء طلاقها من أحمد السقا    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    برلماني: استرداد سيناء ملحمة وطنية تتناقلها الأجيال    الزراعة: إصلاح الفدان الواحد يكلف الدولة 300 ألف جنيه    وزيرة التخطيط: الفجوة التمويلية في الدول النامية تصل إلى 56%    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    اختفاء دول.. خبير أبراج يتوقع مرور العالم بأزمات خطيرة    سميرة أحمد: بحب منى زكي أوي .. وأنا ضد مصطلح السينما النظيفة    جماعة الحوثي تشن 5 هجمات ضد السفن في البحر الأحمر.. فيديو    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    أحمد فايق يقدم نصائح لطلاب الثانوية العامة عبر «مصر تستطيع»: «نجتهد دون قلق»    الأونروا: قطاع غزة يشهد موجة حر غير عادية فاقمت الأزمة المعيشية    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى فاقوس المركزي ويحيل مشرف التغذية للتحقيق    صلاح ضمن التشكيل الأفضل للدوري الإنجليزي    طائرة الزمالك "سيدات" يفوز على أسيك ميموزا الإيفواري بنتيجة 3-0 في البطولة الإفريقية للأندية    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    حياتى أنت    تعرف على أهداف الحوار الوطني بعد مرور عامين على انطلاقه    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    اقرأ في عدد «الوطن» غدا.. مصر تجري اتصالات مع كل الأطراف لوقف الحرب في قطاع غزة    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    مصرع طفل سقط في مصرف زراعي بالفيوم    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    محافظ المنوفية: 25 فاعلية ثقافية وفنية خلال أبريل لتنمية المواهب الإبداعية    قائمة الزمالك المشاركة في بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات»    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    45 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    أول تعليق من كلوب على إهدار صلاح ونونيز للفرص السهلة    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرنامج النووي الإيراني .. بين صعود الدور وتهديد الأمن الخليجي: سيناريوهات مفتوحة(12)
نشر في محيط يوم 12 - 03 - 2013


مجيط : مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية
إعداد : عزت عبد الواحد سيد*

مقدمة

تسعى إيران من خلال امتلاك برنامج نووي عسكري إلى حماية دورها الإقليمي، وتوسيع هذا الدور ليكون للجمهورية الإسلامية حضوراً لا يقل وهجاً عن الهالة النووية المعطاة للهند وإسرائيل وباكستان، وقد نجحت في الحصول على أسرار التجربة الباكستانية، كما حققت الكثير على صعيد تطوير قدراتها الصاروخية، ولا يزال تألقها على حاله، كونها مخزناً ضخماً للغاز والنفط، وذات موقع جغرافي حساس، وقد وسعت نفوذها السياسي، والأمني، والاقتصادي، فامتد إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وجهزت جبهات تُساعد على شحن نفوذها الإقليمي بالمزيد من الحيوية والصمود. ويُشير كثير من الإيرانيين إلى أن الطموحات السياسية للرئيس "محمود أحمدي نجاد" وهو المُتشدِد الذي تغلَب على المُرشح صاحب الخبرة السابقة "هاشمي رافسنجاني" في الوصول إلى رئاسة البلاد قد، ركزت على موضوع السلاح النووي، لتعزيز مساعيه إلى عرش السلطة الإيرانية، فقد تمكن "نجاد" من تجاوز النُخبة الحاكمة بالتوسل إلى الشارع الإيراني من خلال الحقوق الإيرانية في الحصول على الطاقة النووية، كسبب ومرتكز أساسي لحملته الإنتخابية لإحياء المثل الثورية، وتعزيز قاعدته بين الأوساط العسكرية، وبذلك أصبح المفهوم السائد لدى قطاع كبير من الإيرانيين، هو أن إيران صاحبة التاريخ العريق والحاضر الزاهر بالإمكانات الهائلة من حقها أن تُصبح دولة نووية قوية، اعتقاداً منهم بأن إيران عندئذ ستنال الإحترام الذي تستحقه من العالم، وإعلانها لاعباً أساسياً كقوة جيوبوليتيكية في المنطقة يُحقق الإعتراف بها كجمهورية إسلامية قوية.

وإيران إذ تطرح طموحها لإمتلاك التقنية النوية فهي تقدمه للعالم بدعوى الإستخدام السلمي للطاقة، فيما ترى أطراف دولية وإقليمية أن مرد هذا الطموح، هو الإنتقال في مرحلة لاحقة من الإستخدام السلمي للطاقة النووية إلى الإستخدام العسكري لها. وهو ما اصطدم بمُعارضة إقليمية ومخاوف خليجية، ومُمانعة أمريكية وإسرائيلية، وتأرجُح في الموقف الأوروبي بين سياسة الحوار والمُعارضة.

ومن ثم تسعى تلك الدراسة لبحث تطوُرات البرنامج النووي الإيراني وبواعثه في إطار رؤية إيران لمصالحها القومية ودورها الإقليمي والدولي ورؤيتها لأمنها القومي والإقليمي، ومردود تلك الرؤية في أمن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في ظل السيناريوهات المفتوحة للتعامُل الدولي مع ذلك البرنامج.

أولآً: تطور البرنامج النووي الإيراني:

تعود البدايات الأولى للبرنامج النووي الإيراني إلى عهد الشاه "محمد رضا بهلوي" حيثُ مثل الإهتمام بالطاقة النووية جزءاً من جهود الشاه الرامية إلى تحويل إيران إلى قوة إقليمية عظمى من خلال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف الخمسينيات بعد القضاء على ثورة "مصدق" في أغسطس 1953، ودخول إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية في برنامج الذرة من أجل السلام.([i]) ثم إنضمام إيران لحلف بغداد العسكري عام 1955، وتوقيعها والولايات المتحدة الأمريكية عام 1957 على إتفاقية للتعاون النووي في الأغراض المدنية لمدة عشر سنوات جُددت لفترة أُخرى فيما بعد، حصلت بموجبها إيران على مساعدات نووية أمريكية وعدة كيلوجرامات من اليورانيوم المُخصب للأغراض البحثية، ثم أعادت الولايات المتحدة في العام 1967 إمداد إيران بعدة كيلوجرامات أخرى من اليورانيوم المخصب، إرتفعت فيما بعد إلى مائة وأربعة كيلوجرامات لتشغيل المفاعل النووي البحثي الذي بدأته إيران في جامعة طهران منذ العام 1959.([ii])

وقام الشاه "رضا بهلوي" في عام 1974 بإنشاء محطة للطاقة النووية في (بوشهر) بمساعدة ألمانية وتشجيع من الولايات المتحدة والدول الغربية لإيران على ارتياد المجال النووي. غير أنه تم إلغاء المشروع مع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 إتساقاً مع الأراء القائلة بحرمة إمتلاك مثل هذا النوع من الأسلحة، بعد أن كان الشاه قد إستثمر نحو 6 مليارات دولار في بناء المنشئات النووية، وكانت الشركات الألمانية قد انتهت من إنشاء البنية التحتية ووعاء الإحتواء الفولاذي لأحد المفاعلات في (بوشهر). وسادت القيادة الإيرانية في أعقاب الثورة حالة من عدم الإكتراث أو اللامبالاة بالطاقة النووية، حيث اتخذ القادة الثوريون الإيرانيون، وفي مقدمتهم "آية الله الخميني"، موقفاً سلبياً تجاه الطاقة النووية، في الوقت الذي رفضت فيه الولايات المتحدة وألمانيا والدول الغربية التعاون مع إيران في المجال النووي، وفرضت حظراً شاملاً ضد إيران في كافة مجالات التسليح.([iii])

وفي ظل الظروف الدولية والإقليمية التي أحاطت بإيران تمت مُراجعة شاملة لهذا القرار عام 1982عندما تعرضت المنشآت النووية الإيرانية للقصف الجوي والصاروخي العراقي أثناء الحرب في الوقت الذي بدأت تُعاني فيه من الحظر على مشتريات الأسلحة، فيما كان العراق يحصُل على كل ما يحتاجه من الإتحاد السوفيتي وفرنسا، الأمر الذي جعل المسؤولين الإيرانيين يُعيدون التفكير في ضرورة التزود ببرنامج للتسلُح النووي. غير أن هذا لم يكُن السبب الوحيد، فهناك سبب آخر كان يؤرق الإيرانيين وهو أن جميع الدول المُجاورة إما أنها تمتلك أوعلى وشك امتلاك قوى نووية، فهُناك الإتحاد السوفيتي بكل ما يملكه من ترسانة نووية معروفة، ثم الهند وباكستان اللتان بدأتا تأخُذا مكانهما بين الدول النووية، وهناك الولايات المتحدة الموجودة بكل صنوف الأسلحة في المنطقة، وكان هُناك العراق وما تردد حول امتلاكه أسلحة تدمير شامل، وأخيراً وقبل كل شيء كانت هُناك إسرائيل التي لا يُخفى على أحد إمكاناتها في هذا المجال رغم إنكارها الدائم والمُستمر. ومن هنا فإن المسؤلين الإيرانيين رأوا أنهم من المستحيل الإكتفاء بالمشاهدة في ظل هذه الأجواء دون اتخاذ خطوات فعالة لمُواجهة التهديدات المحيطة، ومن ثم بدأ البرنامج النووي الإيراني يشهد مزيداً من قوة الدفع بعد ما حدث من تحوُلات جذرية في التفكير الإستراتيجي الإيراني عموماً، وفي المجال النووي خصوصاً. فقد وجدت القيادة النووية أنهُ من الحيوي بالنسبة لها أن تهتم بإعادة إحياء البرنامج النووي، مع السعي الحثيث لتنويع مصادر الحصول على التقانة النووية ليشمل روسيا والصين وباكستان والهند وكوريا الشمالية والإرجنتين وجنوب إفريقيا، بعد أن فشلت جهودها الرامية للتعاون مع دول غرب أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا وأسبانيا نتيجة الضغوط الأمريكية الرافضة لإستكمال العمل في محطة بوشهر النووية.([iv])

ونفذت إيران وقتذاك كثيراً من الأنشطة المُتعلقة بتصميم الأسلحة ودورة الوقود اللازمة لصنع السلاح النووي، كما قامت الحكومة الإيرانية بتأسيس مركز أبحاث نووية جديد في جامعة أصفهان عام 1984 بمساعدة صينية، وشرعت في إنشاء مركز للبحوث والإنتاج النووي في منطقة معالم كاليه عام 1987، وأعلنت مصادر إيرانية مسئولة في عام 1988 أن إيران أنشأت معملاً لإستخلاص البلوتونيوم. وكان الإتفاق الذي وقعته مع باكستان عام 1986 يقضي بأن تقوم باكستان بتدريب العلماء الإيرانيين والمُساعدة في البرنامج النووي الإيراني، ثم وقعت إيران اتفاقاً مع الأرجنتين عام 1987 للحصول على وقود نووي أرجنتيني من اليورانيوم المُخصب المُخصص للأغراض السلمية، أعقب ذلك اتفاق آخر مع جنوب أفريقيا خلال الفترة من 1988- 1989، للحصول على كميات من اليورانيوم المُخصب لإجراء التجارب النووية.([v]) كما تردد أن إيران نشطت دورها من أجل الحصول على رؤوس نووية من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى في الفترة التي تلت تفكُك الإتحاد السوفيتي، كذلك نشطت في مجال تطوير الأسلحة الباليستية متوسطة المدى، وأستطاعت إنتاج عدة أنواع من الصواريخ مثل (سكود- بي 9) و(عقاب) و(موشاك) واستخدمتها خلال المراحل الأخيرة من الحرب مع العراق.([vi])

ومن ثم دخل البرنامج النووي الإيراني مرحلة الإهتمام الكثيف منذ بداية التسعينيات، حيثُ شهد البرنامج النووي الإيراني نشاطاً مُكثفاً في كافة المجالات، وأصبحت إيران تمتلك بنية أساسية كافية لإجراء الأبحاث النووية المُتقدمة، ووردت تقارير تُشير إلى أن إيران لديها على الأقل 200 عالم، ونحو 2000 شخص يعملون في مجال البحوث النووية.([vii])

وفي مقابلة مع شبكة التليفزيون الأمريكي في مايو 1995 أكد الرئيس الإيراني السابق "هاشمي رافسنجاني" بأن بلاده لا تملُك سلاحاً نووياً ولا تسعى للحصول عليه أو تطويره. ورداً على هذا التصريح أكد وزير الخارجية الأمريكية السابق "وارين كريستوفر" على أن واشنطن لديها المعلومات الكافية التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن إيران لديها هيكلاً وبرنامجاً مُنظماً ومُخصصاً لتطوير الأسلحة النووية منذ أوائل الثمانينيات.([viii])

وقد إهتمت إيران بإنشاء أجهزة الطرد المركزي التي تعمل بالغاز لتوفير الوقود اللازم لمحطتي (بوشهر) وهو ما أرتبط بسعيها في إمتلاك القُدرة على تخصيب اليوارنيوم، وخلال الفترة ما بين 1993-1995 حصلت إيران على ما يكفي لإقامة 500 جهاز، تمكنت من إنشاء 160 جهاز منها حتى مارس 2003. كما أستطاعت خلال الفترة من 1997-2002 أن تصنع ذاتياً كل مكونات اليورانيوم وأن تختبر كافة أجهزة الطرد المركزي بنجاح، ومن ثم أنشئت مصنع لتخصيب اليورانيوم في ناتانز والذي أصبح مقراً لبرنامج الطرد المركزي حتى يتسنى لها إتمام دائرة الوقود النووي.([ix])

وبرغم أن إيران وقعت في عام 1970 على اتفاقية منع انتشار السلاح النووي وسمحت لهيئة الطاقة النووية بإجراء مراقبة على التجهيزات النووية المدنية التي تملكها وأظهرت حرصاً على المُطالبة بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، ومن ثم فإن كل المرافق النووية الإيرانية التي يتضمنها البرنامج النووي الإيراني تخضع لنظام ضمانات (رقابة) الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتفتح أبوابها لفرق التفتيش التابعة لها. وعلى الرغم من قِدَم البرنامج النووي الإيراني، فإنه لم تثر حوله أية شكوك قبل الإحتلال الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003، ومنذ تم ذلك مارست الولايات المتحدة وإسرائيل ضغوطاً هائلة على الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ودولاً أوروبية بحجة أن إيران تملُك برنامجاً نووياً عسكرياً تسعى من خلاله لإستخدام التقانة النووية في المجال العسكري.([x])

وحيثُ يُشكل الإصرار الإيراني على تخصيب اليورانيوم أحد أقوى بواعث الشكوك الدولية في المقاصد الإيرانية، على الرغم أنهُ ليس في مُعاهدة منع الإنتشار النووي ما يحول دون مُمارسة الإثراء التنظيري بإستخدام أي تقنية تراها الدولة الراغبة في ذلك، ولأن الأمر يختلف في حالة إيران نظراً لتعلّقه بمواد نووية قابلة للإنشطار النووي فقد استدعى ذلك بسط رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ونظراً لخطورة عملية تخصيب اليورانيوم، يتم فرض رقابة على إنتاجها وعلى استعمالها ضمن ما يُعرف بنظام الضمانات الشاملة، حيثُ تتشارك الدولة العضو في الإتفاقية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في التعهُدات والإلتزامات، وفي حالة التأكُد من عدم امتثال الدولة لتعهُداتها، يجوز لمجلس محافظي الوكالة العمل بما جاء في الفقرة (ج) من المادة (12) من النظام الأساسي للوكالة، والتي تتضمن عدة أمور، منها : إنهاء المُخالفة إلى جميع أعضاء الوكالة، وإلى مجلس الأمن وإلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. ([xi])

وفي المسألة الإيرانية جاء تقرير مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية صريحاً بشأن الإتهامات الأمريكية حول تطوير إيران سلاحاً نووياً، فقد أكدت هذه التقارير على عدم وجود دليل على أن برنامج إيران النووي مُخصص لأغراض تصنيع أسلحة نووية، ففي تصريحاته لقناة العربية الإخبارية التليفزيونية في 20/12/2004 قال مدير عام الوكالة : إن الوكالة لم تر أبعاداً عسكرية لهذا البرنامج، وأن تخصيب اليورانيوم شيء مسموح به ، ولكن لا بد من مراقبة.([xii])

ومع بداية عام 2006، شهد الملف النووي الإيراني تطوراً جديداً، ففي الثامن من يناير طلبت إيران من الوكالة الدولية فض الأختام التي وضعها مُفتشوها في وقت سابق عن منشآتها النووية في مفاعل (ناتانز) وموقعين آخرين مُرتبطين به، ورفضت المُقترح الروسي بنقل عمليات التخصيب إلى الأراضي الروسية ضماناً لعدم لجوء الإيرانيين لإستخدامه في أغراض تصنيع سلاح نووي.([xiii]) وقوبل الطلب الإيراني بإتفاق في وجهات النظر الأوروبية والأمريكية ودعم روسيا والصين على ضرورة أن تُوقِف إيران برنامجها النووي بشكل كامل، ومن ثم توحدت المواقف الدولية وصدر قرار مجلس محافظي الوكالة ليقضي بإحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن من دون اتخاذ إجراءات عقابية في تلك المرحلة، حيثُ مازال الأمر مُتعلقاً بالشك في طبيعة هذا البرنامج. وهو ما دعمه صرامة المُعارضة الروسية والصينية في مجلس الأمن لمشروع القرار البريطاني المدعوم أمريكياً ضد إيران مما جعل الغطاء الدولي لأي ضربة عسكرية أمراً شبه مستحيل.([xiv])

وفي الحادي عشر من إبريل 2006 أعلن الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" أن إيران إنضمت إلى مجموعة الدول التي تمتلك التقانة النووية وأنها مُصمَمة على الوصول إلى المستوى الصناعي لتخصيب اليوارنيوم، ومن ثم اعتبر "نجاد" أن إيران قد ولجت بالفعل النادي النووي. وهو نفس المعنى الذي أكده "هاشمى رافسنجاني" رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام في اليوم ذاته. وأكده في اليوم التالي "ستيفن ريدميكر" مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية المُكلف بملف حظر الإنتشار النووي، والذي أعلن أن طهران قادرة على صنع القنبلة النووية في غضون 15 شهراً.([xv]) بينما رجح مدير الإستخبارات القومية الأمريكية "جون نيغرويونتي" في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية في 2 يونيو 2006، أن تمتلك إيران القنبلة النووية بحلول عام 2010.

هذا وقد وقعت إيران اتفاقاً مع كل من تركيا والبرازيل في 17 مايو 2010 نص على نقل إيران لليورانيوم مُنخفض التخصيب بنسبة (3.5%) إلى تركيا لمُبادلتها بيورانيوم عالي التخصيب بنسبة (20%)، فيما قررت إيران والقوى الكبرى في مجموعة (5+1) وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي إلى جانب ألمانيا في سبتمبر 2010 إستئناف المفاوضات المُتوقفة منذ أكتوبر 2009 حول البرنامج النووي الإيراني بعدما رفضت إيران اقتراحاً ينُص على إرسال 1200 كيلوجرام من اليورانيوم الإيراني الضعيف التخصيب إلى روسيا للحصول في المقابل على وقود من روسيا وفرنسا لمُفاعل الأبحاث الطبية في طهران، وهو ما يُؤكد إصرار إيران على إمتلاك القُدرات النووية وخصوصاً عمليات التخصيب، وأنها مُتمسكة أيضاً بسياسة فرض الأمر الواقع واستباق التطوُرات لوضع الطرف الآخر في وضع المُتلقي. وهو ما يتسق مع نهج الرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" الذي تميز بالصلابة سواء في سياسته التفاوضية بشأن البرنامج النووي أو التشدُد في استكمال البرنامج النووي ارتباطاً بقناعته بأن سياسة تخفيض التوتر التي تبنتها الحكومات السابقة حققت القليل وأضعفت كثيراً الموقف الإيراني وأجبرته على المزيد من التنازلات.

ثانياً: دوافع البرنامج النووي الإيراني:

على الرغم من أن المسئولين الإيرانيين في المجال النووي قد أشارو مراراً إلى أن الهدف الوحيد للجمهورية الإسلامية الإيرانية في القطاع الذري هو إستخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية، فقد أصبح من المسلم به أن إيران تسعى للحصول على أسلحة نووية". والحق أن الحصول على الأسلحة النووية له دوافع ومسوغات من وجهة نظر طهران تصُب مُجملها في كون ذلك حقاً أصيلاً لها خاصة بعد إستخدام العراق في حربهِ ضدها أسلحة كيمائية، وتواتر الدلائل على إمتلاك العراق لأسلحة دمار شامل إستدعت ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي خارج بغداد والإحتلال الأنجلوسكسوني للعراق عام 2003. إلى جانب وجود إسرائيل وباكستان كقوتين إقليميتين تمتلكان مُعدات نووية، وأن بعض جيران إيران من جهة الشمال كجمهوريات آسيا الوسطى ربما يكون لديها بقايا أسلحة من عتاد الإتحاد السوفيتي السابق في أراضيها، في حين تخضع الدول العربية المُجاورة لإيران من جهة الجنوب للحماية العسكرية الأمريكية الموجودة بفاعلية مُقابل سواحل إيران على الخليج.([xvi]) ومن ثم ليس من الصعب تفهُم الدوافع الإيرانية في سعيها للحصول على السلاح النووي والذي له دلالته الإستراتيجية من وجهة النظر الإيرانية ذاتها، حيثُ أضحت تلك البرامج جُزءاً أساسياً من مكونات التفكير الإستراتيجي الإيراني.

وبغض النظر عن ارتباط تطوير إيران للبرامج النووي بتطورات الوضع الإقليمي في الخليج من عدمه فإنه يرتبط بشكل وثيق بالرؤية الإستراتيجية لدور إيران الإقليمي عموماً والتي ترى أن امتلاك عناصر تفٌوق مثل البرنامج النووي سيكون آلية مُهمة بإتجاه تحقيق هذا الهدف.([xvii])

ومن ثم هناك مجموعة من البواعث والدوافع التي تُساق لتبرير السعي الإيراني لإمتلاك السلاح التقانة النووية يمكن إجمالها فيما يلي:

1- الدوافع الاقتصادية: فالبرنامج النووي الإيراني يرمي إلى تأمين نحو 20% من الطاقه الكهربائية بواسطة المواد النووية، وذلك لتخفيض استهلاكها من الغاز والنفط، فوفقاً لتصريحات أدلى بها "حسين موسوي" نائب رئيس الوفد الإيراني إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن معدل النمو السكاني في إيران سيُحتم عليها مستقبلاً إستخدام إنتاجها الكامل من النفط، مما سيحرم إيران فعلياً من دخلها الحيوي من الصادرات النفطية.([xviii]) وهناك تقديرات تُشير إلى أن سكان إيران سيزيد على المئة مليون نسمة بحلول عام 2018 مما يتطلب تنويع الموارد الوطنية للطاقة للمحافظة على إرتفاع معدلات النمو.([xix]) تلك الدوافع لا تبدو منطقية بالنسبة للبعض بالنظر إلى الكُلفة العالية لبناء المفاعلات النووية التي تصل لمليارات الدولارات، وهي ليست ذات فائدة كبيرة من الناحية الإقتصادية لدولة مثل إيران تمتلك مخزوناً ضخماً من النفط والغاز الطبيعي يُمكن إستخدامه لتوليد الكهرباء بتكلفة لا تتعدى 18-20 % من تكلفة الكهرباء النووية، علاوة على أن إيران ركزت إنشاء مفاعلاتها النووية في منطقة واحدة جنوب البلاد بعيداً عن المدن الإيرانية والمنشآت الصناعية في شمال البلاد، وهو ما يُقلل إمكانية الإستفادة من هذه المفاعلات في توليد الطاقة لخدمة الإحتياجات الإستهلاكية.([xx])

2- الدوافع العسكرية: حيثُ أن هناك ما يُشبه الإجماع على أن دوافع عسكرية وراء البرنامج النووي الإيراني، استناداً إلى أن الفكر الإستراتيجي الإيراني قد ركز بشدة على الدروس المُستفادة من الحرب العراقية- الإيرانية والتهديدات الأمريكية الإسرائيلية لإيران، وأن إيران لابد وأن تستعد لأية احتمالات في المستقبل، كما أن إيران استنتجت أنها لا يجب أن تعتمد كثيراً على القيود الذاتية التي قد يفرضها الخصوم على أنفسهم أو على تمسكهم بالإلتزامات الدولية. وفي واقع الأمر أن إيران تمتلك برنامجان نوويان، أحدهما مدني يعتمد على مفاعلات الطاقة كما في مفاعل (بوشهر) الذي يعمل بالماء الخفيف واليورانيوم منخفض التخصيب و هو لا يُثير مشكلة عسكرية من الناحية الفنية. أما البرنامج الأخر فهو الذي أقيم في مدينتي ناتانز وأراك والذي يعتمد على تخصيب اليورانيوم 235 والذي يُمكن أن يقود إلى إمتلاك القنبلة النووية، خاصة إذا ما تم ربط ذلك بالتصريحات السياسية الحادة للرئيس "محمود أحمدي نجاد" والتي لا تُشير بأي صورة إلى أن ما يتم إنجازه في إيران هو برنامج نووي مدني يرتبط بمجرد إنتاج الكهرباء، وهو ما يُثير مسألة التوجهات العسكرية وليست المدنية كما هو الحال في البرنامج المصري والخليجي السلمي.([xxi])

3- الدوافع السياسية والاستراتيجية: وهي تلك المُتعلقه بمفهوم الدور، حيثُ تندرج عملية تطوير القُدرات النووية الإيرانية في إطار تصور مُتكامل للسياسة الخارجية الإيرانية على الأصعدة الإقليمية والدولية، حيثُ ترتكز السياسة الخارجية الإيرانية على الإستحواذ على مكانة مُتميزة على الساحة الإقليمية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن القيادة الإيرانية تعمل في إطار هذا التصور على القيام بأدوار مُتعددة تبدأ بالمشاركة في ترتيبات أمن الخليج، وتحقيق الإستقرار في منطقة شمال غرب آسيا، وتصل الرؤى الرسمية الإيرانية إلى تصوُر إمكانية الإفادة من التحوُلات الهيكلية الجارية في المنظومة الدولية في وضع استراتيجية استقطابية هدفها الأول ملء الفراغ الأيديولوجي في العالم الثالث عقب انهيار الإتحاد السوفييتي، والثاني استمرار المُواجهة مع الولايات المتحدة على أساس نظام قيمي مستمد من الإسلام، ويستوعب الطاقات والخبرات والتجارب التي أفرزتها حُقبة الثمانينيات والتسعينيات. ولذلك، فإن السلاح النووي يُمكن أن يُقدم لإيران أداة بالغة الأهمية لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.([xxii])

ثالثاً: مظاهر ودلالات الدور الإيراني:

يتحدد الدور الذي تؤديه الدولة على مسرح الحياة السياسية إقليمياً ودولياً بمقومات القوة التي تملُكها تلك الدولة وبطبيعة علاقاتها في محيطها الإقليمي والدولي، ومن ثم تتحدد قوة الدولة بمقدار تفاعل عناصر تلك القوة. فكلما حدث تغيير في القدرات المكونة لهذه القوة تغير تبعاً لذلك حجم قوة الدولة ودورها وفعاليتها على مسرح الأحداث.([xxiii]) وعلاقات القوة تتخلل بشكل واضح كل مجتمع من المجتمعات وكذلك في علاقات الدول فيما بينها وبين بعضها، فلكل دولة أهداف واستراتيجيات تسعى إلى تحقيقها إقليمياً ودولياً بل وداخلياً. وهذا يتطلب توافر عناصر مُعينة للقوة حتى تستطيع الدولة أن تُحقق ما تصبو إليه.([xxiv])

وبإلقاء نظرة مُتعمقة علي تاريخ الدولة الإيرانية يُلاحظ دائماً أنها كانت تنظُر إلي تميُزها الحضاري واللغوي والثقافي وتعدادها السكاني وطموحاتها القيادية في المنطقة، كدعائم تؤهلها للإضطلاع بدور إقليمي مُتميز يُدعمها في ذلك موقعها الهام الذي تحتله علي رأس الخليج والذي يُمكنها من التحكُم في عصب اقتصاديات دول المنطقة وهو الطاقة، ولعل علاقات إيران بدول مجلس التعاون الخليجي أحد أبرز التفاعلات الإقليمية التي تعكس بوضوح الرغبة الإيرانية في مُمارسة دور إقليمي بارز من خلال إقامة شبكة من المصالح الاقتصادية والثقافية مع تلك الدول تُدعِم هذا الدور الإيراني في المقام الأول كهدف غير مُعلن وإن كان ظاهره الرغبة الإيرانية في تحقيق الأمن والإستقرار بين ضفتي الخليج، ومن ثم كانت منطقة الخليج مجالاً حيوياً للسياسة الإستعمارية الفارسية منذ حقب تاريخية سحيقة.([xxv])

وقد ظلت إيران منذ عهد الشاه "رضا بهلوي" وولده "محمد" من بعده تنظُر إلى الخليج بإعتباره بحيرة إيرانية، إلا أن الوجود البريطاني وبروز الدولة السعودية عام 1932 كان عاملاً من عوامل الحد من الأطماع الإيرانية في المنطقة. وقد لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن السياسة العسكرية لإيران "الشاه" كانت تهدف، ليس فقط إلى القيام بدور القوة المهيمنة في الخليج، بل القيام بدور رئيسي ومحوري أيضاً في مناطق الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا والمحيط الهندي، بل أن بعض التحليلات تذهب لأبعد من ذلك بالقول بأن "شاه إيران" كان يرغب في منع أي قوة دولية أُخرى تحل محل بريطانيا في الخليج عقب إنسحابها منه عام 1971، بما في ذلك حليفته الإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، بحيثُ تكون إيران هي القوة المُهيمنة في الخليج، بل لم يكن مُستبعداً أن تكون طموحات "الشاه" امتدت إلى تصوُر إمكانية قيام إيران بدور مُتميز على الساحة العالمية في إطار عملية إعادة توزيع موارد القوة الإقتصادية والصناعية على مستوى العالم.([xxvi])

وظل حلم بلوغ القوة العظمى الإقليمية قائماً في السياسة الإيرانية منذ قيام الثورة، إلا أن الظروف الدولية والإقليمية حالت دون تحقيق ذلك، وعندما واتتها هذه الظروف من جديد سعت لتحقيقه، ومن ثم مارست السياسات واتبعت الأساليب التي تحقق لها ذلك، مُعززة بالسعي للحصول على التقنية النووية أملاً في التوصُل إلى القُدرات النووية العسكرية.

فقد مثلت الثورة الإيرانية أول ثورة إسلامية ناجحة في العصر الحديث، وهي الحدث الذي كان له أكبر الأثر على سياستها الخارجية بسبب التغيير الحادث في داخل إيران وفي رؤيتها للعالم الخارجي ولتغيُر خريطة الحُلفاء والخصوم في البيئة الدولية والإقليمية. ومنذ تلك اللحظة التاريخية عانى صانع القرار الإيراني من الحيرة والتخبُط بين ما تمليه المصلحة القومية ومُتطلبات الأهداف الأيدولوجية التي غيرت من مصادر التهديد للدولة الإيرانية والفُرص السانحة أمام النظام الإيراني، فقد أحدثت تحوُلات كبيرة وسريعة في المجتمع الإيراني وأثرت على إطارها الجغرافي والإقليمي بل وكان لها صداها الدولي العالمي.([xxvii])

ونظرة إجمالية على خارطة العلاقات التي حكمت طهران مع عواصم الجوار الجغرافي، تُبين أن الصبغة الأساسية لهذه العلاقات كانت التوتر وعدم الإستقرار، وهو أمر مفهوم في بعض جوانبه، سواء بسبب الطموحات الثورية للإيرانيين التي صاحبت اطاحة الإمام الخميني وأنصاره بسلطة "محمد رضا بهلوي" امبراطور ايران السابق وأحد مُرتكزات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، أو بسبب المخاوف التي اثارها انتصار ثورة "الخميني" وسط مجموعة من البلدان التي تُشكل نقائضاً سياسية وأيدلوجية ودينية ومذهبية تحيط بإيران من كل الإتجاهات. فلم تختلف السياسة الإيرانية تجاه الخليج كثيراً عنها في عهد "الشاه" حيثُ توترت العلاقات بين العراق وإيران وصولاً لحرب الخليج الأولى التي ألقت بظلالها وتهديداتها على منطقة الخليج وأمنها. وفي الوقت ذاته خابت آمال الدول الخليجية بشأن بداية عهد جديد في إيران يجُب عهد "الشاه" وطموحاته التوسعية في المنطقة، بعد إعلان مبادئ الثورة الإسلامية وإحياء الأحلام التوسعية والرغبة في استعادة الأمجاد الفارسية في المنطقة من جديد، وإعلان منطقة الخليج كمنطقة نفوذ إيرانية في ظل عدم تطابُق الإسلام مع النُظم الملكية السائدة في دول الخليج كما ترى إيران الثورة، وإعتبار البحرين جزء من الأراضي الإيرانية. لذا عمل النظام الجديد على دعم الشيعة في العراق ودول الخليج الأُخرى بهدف زعزعة الإستقرار في الداخل تمهيداً للسيطرة الإيرانية عليها.([xxviii]) فقد جعل "الخميني" تصدير الثورة مبدأ لازماً لنجاح حركة الثورة الإسلامية في إطارها الإقليمي والدولي بإعتبارها رسالة لإنقاذ المُستضعفين في العالم كله، فقال في خطابه بمناسبة العيد الأول للثورة " سوف نُصدر ثورتنا للأركان الأربعة لأن ثورتنا إسلامية".([xxix])

ومن ثم كانت دول الخليج المجاورة مجال إيران الحيوي في حركتها الثورية مُتهمة نُظمَها بالفساد والعمالة للإستعمار الأمريكي، مما أوجد خوفاً مُبرراً لدى هذه الدول ودفعها- ضمن عوامل أُخرى- إلى إعلان قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مايو 1981 كآلية إقليمية لجمع الشمل الخليجي وتوحيد الصف لمُواجهة الأخطار التي تُحدق بأمن المنطقة نتيجة لتوجُهات النظام الجديد في إيران واستمرار رُحى الحرب العراقية الإيرانية.([xxx])

وبعد رحيل قائد الثورة الإسلامية وانتهاء حرب الخليج الأولى، بدأ تأثير العوامل الداخلية يطغى على تأثير العوامل الخارجية في السياسة الإيرانية، فقد شهدت ايران تحوُلات سياسية مُهمة بعد التوجُه إلى بناء نظام تختلط فيه القيم الدينية والديمقراطية، نظام يتم بموجبه الوصول إلى السلطتين التنفيذية والتمثيلية عبر صناديق الإنتخاب، وهو أمر فرض مبدأ التداول على السلطة وحرية الصحافة وتعدُدها، وتشكيل منابر وجماعات سياسية، تطرح برامج وتوجُهات عقائدية وسياسية مُتباينة، وهو الأمر الذي يُعبر عنه، الإنقسام الكبير الظاهر في ايران بين التيارين الإصلاحي والمُحافظ، وكل واحد من هذين التيارين يضُم طيفاً واسعاً من الإتجاهات والجماعات والشخصيات. ولا ينفصل هذا التطوُر السياسي في ايران عن تطوُرات الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، حيثُ فرضت سنوات حرب الخليج الأولى والحصار الأمريكي المفروض على ايران، دوراً ملحوظاً في ترديات الوضع الاقتصادي لكثير من الإيرانيين، حيثُ بلغ إجمالي ما أنفقته إيران خلال تلك الحرب نحو 644.23 مليار دولار أمريكي، بينما كلفت العراق نحو 452.6 مليار دولار ، أي أن إجمالي ما أنفقته الدولتان خلال تلك الحرب بلغ نحو ألفا وتسعة وتسعين مليار دولار تقريباً، وهو ما يُعادل أكثر مما أنتجته البلدين من النفط منذ عام 1931 وحتى عام 1988، هذا إلى جانب مئات الآلاف من القتلى والجرحي والأسرى من الجانبين.([xxxi]) وهو ما جعل "البناء" هو شعار مرحلة حكم الرئيس "هاشمى رافسنجاني"، وأصبح الإنفتاح على الخارج غاية هامة لجذب استثمارات أجنبية توقف تدهور الوضع الاقتصادي وتُحافظ على بقاء النظام نفسه. فقد وضع "رافسنجاني" إعادة بناء الاقتصاد على رأس الأولويات واعتمدت خطة "رافسنجاني" الخمسية الأولى للتنمية (1988-1993) على جذب رؤوس الأموال الأجنبيه، واستيراد التكنولوجيا الحديثة، وزيادة عائدات النفط والإقتراض من أسواق المال الدولية، مما أدى إلى تحسُن في أداء الاقتصاد الإيراني، وأصبحت الأوضاع الاقتصادية أكثر اعتماداً على قوى السوق، وبدأت الشعارات الثورية تختفي من على الجدران وحلت محلها إعلانات لترويج منتجات يابانية وأوربية. وكانت قيادة "رفسنجاني" لإيران إلى الاعتدال السياسي بمثابة عامل تخفيف لقيود البيئة الخارجية حيثُ أحدث تحوُلاً تدريجياً في مجالات مثل تصدير الثورة وقاد انسحاباً مُنظماً للأنشطة العنيفة خارج البلاد.([xxxii]) ومثلت حرب الخليج الثانية نقطة تحول إيجابية في انفتاح إيران على العالم العربي، فرغم عدم اندفاع إيران في اتخاذ موقف إيجابي من الغزو لصالح أحد الأطراف إلا أنها رفضت الغزو ذاته وأعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني رفض إيران للإحتلال العراقي للكويت بأي شكل من الأشكال وطالبته بالإنسحاب الفوري وغير المشروط، وأعلنت رفضها لحصول العراق لأي مكاسب إقليمية من شأنها أن تُغير الوضع الجيواستراتيجي في المنطقة، ودعت إلى ضرورة إنهاء الأزمة بشكل سلمي حتى لا تكون ذريعة للتواجُد الأجنبي في المنطقة، وإن كانت إيران قبلت مع المراحل المُتقدمة للأزمة بالتواجُد الأجنبي بهدف إخراج العراق من الكويت فقط دون البقاء في المنطقة.([xxxiii])

وبعد انكسار قوة العراق العسكرية أصبح النظام الإيراني يتمتع بهامش واسع من حرية الحركة في المنطقة، مع قبول العراق بإتفاقية الجزائر لتحييد القوة الإيرانية خلال الأزمة، كما استغلت إيران الخلافات العربية– العربية في ظل ما ساد من تداعيات انتهاء حرب الخليج الأولى والخوف الخليجي من القوة العراقية، وظهرت عدة عوامل دولية وإقليمية أُخرى ساعدت على توطيد العلاقات الإيرانية الخليجية، فقد شهدت المنطقة تطوُرات هامة في مقدمتها دخول كل من الهند وباكستان النادي النووي، فالأولى تمتلك سواحل طويلة على الطريق المؤدي لبحرعمان والخليج والبحر الأحمر والثانية ترتبط ارتباطاً مباشراً بإيران عبر حدود برية تتجاوز الخمسمائة كيلومتر. ثم تصاعُد الأزمة الأفغانية وسيطرة طالبان وعلاقاتها الطيبة بباكستان. وبالمثل جاء التعاون الإستراتيجي العسكري بين تركيا وإسرائيل وانعكاساته السلبية على الأمن القومي العربي والإيراني على السواء دافعاً قوياً لتكريس الرغبة الإيرانية في الانفتاح على دول الخليج والمنطقة العربية عامة في وقت تذبذبت فيه عملية السلام ثم توقفت. وتطلعت إيران إلى أن تُصبح القوة الرئيسية في منطقة الخليج، فهي تمتلك من المقومات الموضوعية ما يسمح لها بذلك، سواحل على طول الخليج، تعداد سُكاني يحلها المرتبة الأولى بين دول المنطقة. وبعد الحظر على البترول العراقي أصبحت ثاني أضخم منتج للبترول بعد السعودية. ومن ثم تصف إيران نفسها كأكبر دولة في المنطقة وبالتالي صاحبة أكبر مصالح بها ولابد وأن تكون مسموعة الكلمة فيما يخُص شئون المنطقة. وهي ترغب في تأمين استقرار منطقة الخليج من خلال نظام أمن إقليمي تضطلع فيه إيران بدور قيادى مُهيمن طارد لأي وجود قوى من قبل قوة أُخرى من المنطقة، ومن باب أولى من خارجها سواء كانت عربية مُمثلة في دول إعلان دمشق أو غير عربية مُمثلة في الوجود الأجنبي.([xxxiv])

واستمرت أهمية البعد الاقتصادي في ظل "خاتمي" فتم التركيز على نقل التكنولوجيا وتطوير التجارة ولكن تحت مفهوم أشمل للتنمية يحوي ليس فقط الأبعاد السياسية بل الثقافية أيضاً، والتي استخدمتها إدارة "خاتمي" بكفاءة من أجل الحفاظ على جسور الحوار ممدودة مع الدول التي يتعثر تطوير العلاقة معها بالشكل الذي تطمح إليه إيران، وفي إطار السعي لتقديم رؤية إيرانية للنظام الدولي ودور إيران فيه، والإتجاه نحو مزيد من البراجماتية على نحو يُخفف الصراع بين مُتطلبات المصلحة القومية والمصلحة الأيديولوجية. وركزت إيران في توجُهها نحو العالم الخارجي خاصة الأمريكي والغربي على مفهوم ثقافي جديد وهو حوار الحضارات، في مُحاولة لنفي صورة الإرهاب والتطرف عنها والتي روجت لها وسائل الإعلام الأمريكية واليهودية بالأساس، وهو الحوار الذي نجح في إعادة السياسة الخارجية إلى مسارها الثقافي الصحيح بخلاف ما كان سائداً في الماضي من تركيز على الجانب الاقتصادي فقط. وأصبح توجه صانع القرار الإيراني نحو العالم الخارجي يقوم على استراتيجية ثقافية تنطلق من مُحاولة الترويج للثقافة والحضارة الإيرانية من أجل مزيد من النجاح في سياسة الإنفتاح على العالم التي لا بديل لإيران عنها في هذه اللحظة التاريخية التي يمُر بها النظام الدولي. ومن ثم عملت إيران على تحسين صورتها الخارجية والعمل على إعادة البناء الداخلي، لكن دون أن يكون ذلك على حساب تطوير قُدراتها التسليحية.

وبالرغم من تذبذب العلاقات الإيرانية الخليجية بسبب قضيتي الجزر واضطرابات البحرين، إلا أن إنفتاحاً شهدته تلك العلاقات في عهد "محمد خاتمي"،عبرت عن نفسها في شكل زيارات مُتتابعة التي قام بها رجال السياسة من دول الخليج إلى إيران، دلت على تنامي خطوات إعادة بناء الثقة بين الطرفين، إلى درجة أن هذه الزيارات تجاوزت السياسيين إلى أفراد المؤسسة العسكرية، كما حدث في زيارة "على شمخاني" وزير الدفاع الإيراني إلى المملكة العربية السعودية، وهي خطوة مُتقدمة في سلسلة الإشارات الإيجابية بين دول مجلس التعاون وإيران على حد وصف المُراقبين. ولقد ترجم هذا القبول والترحيب بيان القمة الخليجية ، الذي أعقب الاجتماع التشاوري الذي شهدته مسقط أواخر شهر إبريل 2000، إذ أكد زعماء مجلس التعاون حرصهم على إقامة علاقات وثيقة تحكُمها الثقة المُتبادلة، وحُسن الجوار واحترام حقوق الطرفين، وعدم التدخُل في الشئون الداخلية.([xxxv])

وكان نجاح التنسيق الإيراني- السعودي في مضمار (الأوبك) وسياسة إنتاج النفط سبباً في الحفاظ على الإجماع بين دول (الأوبك). وبإرتفاع أسعار النفط حققت إيران مكاسب اقتصادية وسياسية فزاد الثُقل الجديد لإيران في (الأوبك) من وزن إيران في المنطقة. ولعل النجاح الإيراني على صعيد (الأوبك) كان من بين الدوافع الهامة التي دفعت الولايات المتحدة لتخفيف بعض القيود على التجارة مع إيران.([xxxvi])

وفيما يخص العراق لم تنتقد إيران بالشدة المطلوبة الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، حيثُ أن إضعاف العراق أمر لازم للإبقاء على توازُنات القوى في المنطقة، ولكنه الإضعاف بدون التقسيم بسبب التركيبة السكانية للإيرانيين والتي تتهدد في حالة إنشاء دولة كردية شمال العراق.([xxxvii]) ويُلاحظ أن الدور الإيراني في العراق في حقبة ما بعد "صدام حسين" قد أصبح من أهم الأدوار وتزداد خطورة هذا الدور في حالة حدوث أي تطوُرات في إتجاه فرض إقامة فيدرالية شيعية في الجنوب، لأن مثل هذا التطوُر لن يؤدي فقط إلى تهديد وحدة العراق وطرح سيناريو التقسيم للدول في الخليج، ولكنهُ قد يؤدي أيضاً إلى ظهور نزعات إنفصالية طائفية في بعض الدول الخليجية بدعم من إيران واقتداء بالنموذج الإيراني وهو ما يكشف مدى الأثر السلبي لزيادة النفوذ الإيراني داخل العراق على تهديد الأمن الإقليمي والأمن الوطني للدول العربية الخليجية.([xxxviii])

وقد زاد من قوة الدور الإيراني في المنطقة أنها تُجيد اللعب على أرض الغير، فالقادة الجُدد في العراق كانوا حُلفاء أساسيين لإيران وطارئين للولايات المتحدة الأمريكية بسبب تعاظُم الحالة العقائدية والإيديولوجية لهؤلاء مما جعل إنحيازهم لإيران إنحيازاً أساسياً فترة الأزمات والإستقطاب على حساب الدور الغربي، وهو ما إنعكس سلباً على علاقات إيران بدول الخليج، وحملت الأخيرة الولايات المتحدة الأمريكية تبعة الخلل في التوازن الإستراتيجي في المنطقة لصالح إيران. ذلك الوضع إزداد تكريساً مع وصول المُحافظين للحُكم بقيادة نجاد عام 2005 وترسُخ وجودهم في برلمان 2008، حيثُ أعادوا الحياة لشعارات الثورة الإسلامية بالترافُق مع حركة تصنيع عسكرية إيرانية في مجال الصواريخ بعيدة المدى والتركيز بشدة وصرامة على ضرورة إستكمال البرنامج النووي مما زاد من المخاوف الخليجية تجاه النوايا الإيرانية وتكسُر جدار الثقة الذي شُيد في العهد الخاتمي والتي لم تفلح في إعادتها الزيارات التي قام بها الرئيس "أحمدي نجاد" لكل دول التعاون خلال عامي 2005 و2007.([xxxix])


*باحث متخصص في الشؤون الإيرانية والخليجية.

هوامش

([i]) البرنامج الذي أعلنه "إيزنهاور" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر عام 1953، والذي يهدف إلى إتاحة الطاقة الذرية أمام الإستخدامات السلمية كالتنمية وتوليد الطاقة دون أن تستخدم في التسليح والدمار.

([ii]) د. أحمد إبراهيم محمود، البرنامج النووي الإيراني: آفاق الأزمة.. بين التسوية الصعبة ومخاطر التصعيد، (القاهرة، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، سبتمبر 2005) ص ص.25-28.

([iii]) أحمد إبراهيم محمود، البرنامج النووي الإيراني: بين الدوافع العسكرية والتطبيقات السلمية، مختارات إيرانية, العدد 6, يناير 2001


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.