ثمة تسطيح وتعميم مروع يمارسه كثيرون في الشأن الليبي، استسهالا أو تكاسلا عن تتبع الحقائق، خصوصا في شأن عويص ومعقد مثل الشأن الليبي، وبعضهم يفعل ذلك تضليلا وكذبا متعمدا، لتأكيد صورة ما تخدم انحيازاته السياسية. أبرز ظواهر الجهل بما يدور في ليبيا هو تشبيه خليفة حفتر –الذي رقاه البرلمان لرتبة مشير مؤخرا- بالسيسي، واتهامه –بالذات من الإسلاميين وأتباعهم- بأنه "انقلابي خارج على الشرعية. تركة القذافي وفوضى الثورة حين سقط القذافي بعد حرب استمرت عدة أشهر، انهارت معه أجهزة الأمن والجيش، التي كانت مرتبطة أصلا بقبضة الزعيم الحديدية، ومبنية على الولاءات القبلية والمحسوبية بشكل أبعد ما يكون عن المؤسسية، كما كانت ضعيفة وتعاني من سوء التدريب ونقص التجهيزات. ومع أن المؤسسات السياسية الناشئة في ليبيا بعد الثورة أظهرت التزاما بإعادة إنشاء شرطة وجيش يتبعان الدولة ويسيطران على فوضى السلاح والميليشيات، إلا أن ضعف هذه الحكومات وغياب الكفاءات والخبرات، وغياب جهود دولية حقيقية، أدى لفشل إعادة البناء. هذا الفشل أدى لانتعاش المجموعات المسلحة وترسخ وجودها كسلطات بديلة للدولة، حيث صار لكل مدينة بل لكل حي أو شارع ميليشيا، بعضها قوامه بضع عشرات، بينما يصل تعداد ميليشيات أخرى إلى آلاف المجندين المسلحين بأسلحة ثقيلة تنافس الجيوش، وقدر خبراء عدد المجموعات المسلحة بما يقارب 1700 جماعة، تضم ما بين 120 إلى 200 ألف مسلح. وأذكى الصراع السياسي في دولة هشة لم ترسخ نظامها بعد، الصراع العسكري بين الميليشيات، حيث صار لكل ميليشيا راع سياسي، بل إن ما حدث في الواقع أن الميليشيات تغولت على الحكومة والأجهزة التنفيذية، ووصل الأمر إلى اختطاف رئيس الحكومة الأسبق علي زيدان من بيته ثم إطلاق سراحه، كما سُرب فيديو لنوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني العام والقائم بمهام رئيس البلاد –أعلى سلطة في البلاد وقتها- وهو مختطف ويتم استجوابه على يد أفراد ميليشيا، وهو ما أكد أن المسلحين صاروا أصحاب الكلمة العليا في الدولة وأن الحكومة عاجزة تماما عن ردعهم. حين قالت الصناديق للإسلاميين: لا.. مرتين جرت أول انتخابات في تاريخ البلاد بعد القذافي في يوليو 2012 لاختيار أعضاء المؤتمر الوطني العام، الذي كان يفترض به أن يضع في خلال عامين دستورا تأسيسيا للبلاد، وتم تقسيم عدد مقاعد المؤتمر المئتين ل80 مقعدا للقوائم و120 مقعدا للفردي، وفاز بمعظم مقاعده تحالف القوى الوطنية، وهو تحالف لقوى مدنية ليبرالية وقومية ويسارية، بينما مني الإسلاميون ممثلين في حزب العدالة والبناء "إخوان" والمجموعات المقربة منه بهزيمة قاسية غير متوقعة. وجرت الانتخابات الثانية بعدها بعامين في يونيو 2014 لاختيار أعضاء مجلس النواب، بعد انتهاء ولاية المؤتمر الوطني العام، وهزم فيها الإخوان والإسلاميون أيضا، ما دفع مجموعات مسلحة تابعة لهم ومقربة منهم إلى الاعتراض على البرلمان قبل أن ينعقد، وهددت مجموعة إسلامية مسلحة في بنغازي بتفجير مبنى البرلمان إذا انعقد في المدينة، وهو ما دفع البرلمان إلى الانعقاد في طبرق بأقصى الشرق، لبعدها عن سيطرة الميليشيات في طرابلسوبنغازي. أما الإسلاميون وخصوصا الإخوان ممثلين في ميليشيات "فجر ليبيا"، والغاضبون من نتائج انتخابات البرلمان، فقد نجحوا في استصدار حكم من المحكمة الدستورية في طرابلس -المحاصرة بأسلحة المليشيات- رأوا أن مضمونه يعني حل البرلمان -لا ينص الحكم على ذلك-. تلا ذلك تشكيل حكومتين في ليبيا إحداهما شكلها البرلمان المنتخب في مدينة البيضاء وهي الحكومة التي اعترف بها المجتمع الدولي برئاسة عبد الله الثني، وأخرى شكلها الإسلاميون المسيطرون على المؤتمر العام المنتهية ولايته في طرابلس برئاسة خليفة الغويل. رجل الانقلاب والثورة شارك خليفة بلقاسم حفتر مع القذافي في انقلاب 1969 "ثورة الفاتح"، وأصبح قائد القوات البرية، وقاد الجيش الليبي في حرب تشاد، لكنه أسر بعد تخلي القذافي عنه، ثم أطلق سراحه فانضم عام 1987 إلى "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا" المعارضة لنظام القذافي، وتولى مسؤولية قيادة "الجيش الوطني الليبي" الذي كان جناحها العسكري. عاش في منفاه بالولايات المتحدة حتى عاد في مارس 2011 إلى ليبيا ليشارك في الثورة، وبعد انتصارها قام عدد من الضباط وضباط الصف بتسميته رئيساً لأركان الجيش الوطني الليبي، ومع ذلك بقي تأثيره محدودا حيث لم يكن لليبيا جيش واحد، بل بقي الجيش الوطني الليبي أقرب إلى ميليشيا كبيرة. لكن اللحظة الفاصلة في تاريخ حفتر كانت عندما أعلن في 16 مايو انطلاق عملية الكرامة، وهي عملية عسكرية هدفت إلى مواجهة الإرهاب والجريمة، ووجه انتقادات حادة للمؤتمر الوطني العام –الذي سيطر عليه الإخوان "فجر ليبيا"- متهما إياه بالتواطؤ مع الإرهابيين والميليشيات، لكنه أعلن أن العملية ليست انقلاباً وأن الجيش لن يمارس الحياة السياسية. حين انعقد البرلمان الذي فاز بغالبية مقاعده الليبراليون في يوليو 2014، أيد عملية الكرامة بقيادة حفتر، ثم عينه فيما بعد قائدا عاما للجيش ورقاه إلى رتبة فريق. لماذا لا يحب الأمريكيون حفتر؟ لا يمكن فهم سعي الأمريكيين لتهميش حفتر، فمع أن الرجل كان حليفا لهم وقضى وقتا طويلا من منفاه على أراضيهم، وقاد عمليات عسكرية نجحت في تطهير أجزاء واسعة من ليبيا من الإرهاب والمجموعات المتطرفة، إلا أن الدول الغربية رفضت إمداده بالسلاح، وعملت على تجاوز البرلمان المنتخب الداعم له عبر صناعة حكومة الوفاق الوطني بضغط دولي. ومع ذلك فقد أعلن البرلمان استعداده لمنح الثقة لحكومة الوفاق، بشرط واحد؛ هو القبول بحفتر قائدا للجيش، وهو الشرط الذي لم تقبله حكومة الوفاق، التي دخلت طرابلس بدعم من ميليشيات تكن عداء شرسا لحفتر. لكن لدى الغرب أسبابا وجيهة لعدم دعم حفتر، فهو يدرك أن دعم الرجل يعني إشعال حرب أهلية ضارية، بين حفتر والمؤيدين له من جهة، وبين الإسلاميين الذين لن يقبلوا بعملية سياسية ليسوا طرفا فيها، وقد تجلى ذلك في لجوئهم للسلاح حين خسروا الانتخابات ولفظتهم الصناديق. ومع انتصارات ميليشيات مصراتة المقربة من الإسلاميين والتابعة لحكومة الوفاق على داعش في سرت، وازدياد الدعم الدولي لحكومة الوفاق، بدا أن حفتر والبرلمان في طريق النسيان، لكن حفتر ضرب ضربته الأخيرة وسيطر على حقول وموانئ النفط في وسط البلاد، ليفرض نفسه من جديد على الطاولة السياسية. بشائر أمل لليبيا يحظى حفتر بتأييد شعبي حقيقي بالذات في المنطقة الشرقية، حيث يقدم نفسه كجيش نظامي منضبط بديلا لفوضى الميليشيات والمتطرفين الذين روع كثير منهم الناس وانخرط بعضهم في أعمال إجرامية. كما أن الحراك الفيدرالي في الشرق، الغاضب من استئثار الغرب بالسلطة السياسية واستحواذه على معظم العوائد النفطية رغم وقوع معظم الحقول في الشرق، يدعم حفتر كجنرال يعيد إلى الشرق أهميته وقوته في المشهد الليبي. وفي الوقت نفسه فإن لدى حفتر مؤيدين أقوياء في غرب ليبيا، خصوصا بين قوات الجيش إضافة إلى ميليشيات ومدن قوية مثل الزنتان. لهذه الأسباب، يصبح حفتر رقما غير قابل للتجاوز في العملية السياسية، بل إن الأرجح أن يتصاعد حضوره وتأثيره في الفترة القادمة. ومع أن حكومة الوفاق لم ولا يبدو حتى اللحظة أنها تقبل بحفتر قائدا للجيش، لكن موافقة حفتر والبرلمان المؤيد له على تسليم إدارة حقول النفط وموانئ التصدير إلى المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق، مع بقاء سيطرة قوات حفتر العسكرية عليها، وعلى الجانب الآخر رفض ميليشيات مصراتة التحرك لمواجهة استيلاء حفتر على المنطقة النفطية، ثم تصريحات رئيس حكومة الوفاق فايز السراج: "لست مستعدا لحكم جزء واحد من ليبيا، ولا لشن حرب على جزء آخر"، وزيارته مؤخرا للقاهرة الداعم الأكبر لحفتر ولقاءه مع المسؤولين الأمنيين المصريين، ثم إشادة المبعوث الدولي لليبيا مارتن كوبلر بجهود مصر في حل أزمة ليبيا، ربما تبشر بتوافق قريب بين الطرفين يعيد ليبيا لحكومة موحدة وينهي أزمة الانقسام فيها.