سرعان ما فشلت هدنة السابع و العشرين من فبراير الماضي في حلب و التي جائت بإعلان روسي أمريكي مشترك عن وقف الاعمال القتالية من جانب الجيش السوري و المجموعات المسلحة في كبريات المدن السورية و اهمها استراتيجياً مدينة حلب. شهدت تلك الهدنة خروقات ميدانية كبيرة من الجماعات المسلحة قد فاقت ثلاثمائة خرق بحسب مركز التنسيق الروسي في قاعدة حميميم باللاذقية. الامر الذي دفع إلي تغيير التوزيع الديموغرافي العسكري في حلب و تهديد انتصارات الجيش السوري و حلفائه قٌبيّل هدنة فبراير. بيد أن وقف الأعمال القتالية حينها و الذي أستُثّنَي منه تنظيمي داعش و النصرة الإرهابيّين و قبول، بل و ترحيب الدولة السورية بهذا القرار، قد أشار بشكل أو بآخر أن القرار السياسي بتحرير مدينة حلب لم يصدر بعد من السوري و حلفائه. من حلب يبدأ كل شئ يريده المعسكر "التركي السعودي الأمريكي"، كأجندة مشتركة متمثلة مبدئياً في إخراج تلك المدينة الهامة ذات الثقل الإستراتيجي الكبير من كنف الدولة السورية ل ليّ ذراعها في مسارات التفاوض الجارية و إخضاعها لإملاءات جنيف، و كأجندة منفردة لكلِ علي حِدة. تُمَثل حلب للتركي النقطة المثالية لجعل حلم المنطقة العازلة شمال سوريا كأمر واقع، و كنقطة إنطلاق نحو تحجيم تهديد الحزام الكردي العسكري النامي بشمال سوريا و العراق و القريب من التركيبة الكردية بداخل تركيا، و من جهة السعودي تمثل حلب الضلع الهام لهدم فعالية محور المقاومة (طهراندمشق حزب الله) في معادلات الصراع الحالية و المؤجلة إلي وقتِ قريب. و لعل ما قاله هاكان فيدان، مدير الاستخبارات التركية، أمام نظراء له عام 2013. حينذاك، يخبرنا أن أهمية حلب تفوق كونها كبريات المدن السورية فحسب، بل تمثل حجر الزاوية في ديناميكية الحرب السورية ككل و ميادين القتال فيها. حيث قال الرجل بثقة: عندما نأخذ حلب، ستسقط باقي المناطق السورية، مهما حقّق النظام السوري وحلفاؤه من إنجازات في الوسط والجنوب. نعم، اقترفت الدولة السورية خطأ كبيراً حين قبلت بهدنة فبراير الماضي و عطّلت سير إنتصارات الجيش السوري بالشمال حتي بعد توجهها لمحور (الرقة تدمر) و تحريرها لمدينة تدمر، هل تعلمت الدولة السورية من فشل هدنة فبراير؟ هل أدرك الروسي أنه سيصارع الوقت عما قريب لقنص انتصار ثمين سيغير من مجريات الحرب السورية تماماً و ربما للابد؟. نعم تعلمت الاولي من الخطأ و ادرك الثاني أهمية الوقت لقنص انتصاراً ثميناً يضمن عدم استنزافه و إطالة أمد جهوده العسكرية في الحرب السورية. ظهر ذلك قبل سبعة أسابيع، حين اتخذت الدولة السورية قرارها السياسي بتحرير حلب، إذ توجه العقيد سهيل الحسن و قواته من إدلب لحلب، و ذلك لإتمام عمليات تطويقها من الشرق و عزلها لأول مرة عن أي دعم لوجيستي من الخارج و قطع اليد التركية الامريكية السعودية فيها. و من خلال العمليات العسكرية المكثفة و التي انطلقت من محور (حندرات مزارع الملاح) توّج الجيش السوري أنتصاراته المتوالية بأهم حدثين قد أسهما بشكل كبير في إحكام الطوق العسكري أخيراً علي شرق حلب و جعل أكثر من 10 آلآف مسلح فيها محاصرين ومعزولين عن أي دعم خارجي. الحدث الاول :إحكام سيطرة الجيش السوري علي الشريان الوحيد و الرئيسي (طريق الكاستلو) الذي يربط مسلحي حلب بمنصة الدعم و الإمداد (تركيا). و الثاني كان بإقتحام الجيش السوري لحي (بني زيد) أكبر معاقل الارهابيين في حلب. بهذا الحدثين قد أحكم الجيش السوري طوقه العسكري بعد أن إستغل الإرتداد التركي إلي الداخل و بعد أن تلقت خطوط الإمداد مع تركيا و مستودعات الأسلحة و مراكز القيادة للمسلحين ضربات جوية كثيفة. طُوِقَت الذراع التركية في المدينة التي تتألف من المجموعات التي تديرها المخابرات التركية: من النصرة، ف نورالدين الزنكي ، فالتركمان من مجموعات ألوية السلطان سليم، و جيش المجاهدين. استسلمت العناصر المسلحة (الحلبية) فيما بقيت باقي أشرس الجماعات المسلحة في الداخل تنتظر كسر الطوق الذي فرضه الجيش السوري، وللوقاية من أي حملات إعلامية مسعور قد تطلقها الولاياتالمتحدة و إعلامها علي غرار (حلب تحترق)، صدر العفو الرئاسي السوري عن كل من ألقي السلاح و استسلم في حلب، كما اشترك الروسي في هذه الاجراءات، حين أعلن وزير الدفاع الروسي الجنرال سيرغي شويغو بدء "عملية انسانية واسعة النطاق" في حلب اعتباراً من يوم أول أمس، موضحاً ان ثلاثة ممرات انسانية ستفتح بالتنسيق مع القوات السورية "من أجل المدنيين المحتجزين رهائن لدى الارهابيين وكذلك المقاتلين الراغبين في الاستسلام. بدء كبريات معارك الشام، و إعادة تدوير النصرة: و كإجراء عسكري مضاد من المسلحين، بدأت أعنف المعارك التي تسعي لكسر الطوق العسكري السوري حول حلب. بيد أن الإنتصارات التي احرزها الجيش السوري قد دفعت الجماعات المسلحة إلي تغيير جذري في تكتيك معاركها، ف لأول مرة تشهد تلك الجماعات تنسيقاً ميدانياً فيما بينها، تمثل في إطلاق (جيش الفتح و حركة احرار الشام و الحزب الإسلامي التركستاني و جيش الإسلام) لمعارك في الجهة الجنوبية الغربية من حلب، في محاولة لكسر الطوق العسكري السوري و تعويض خسارة طريق (الكاستلو)، و بالفعل نجحت تلك المجموعات عبر هجمات مركزة ومكثفة من محاور عدّة امتدّت على طول يقارب 20 كيلومتراً وفقاً لأحد الناطقين باسم «حركة أحرار الشام» ابتداءً من قرية السابقيّة (ريف حلب الجنوبي) وصولاً إلى مدرسة الحكمة المقابلة لمنطقتي الراشدين الرابعة والخامسة. الرّاموسة، بوّابة حلب الجنوبيّة هي الهدف الأساسيّ للمرحلة الأولى من الهجوم، بحثاً عن اختراق يلغي مفاعيل الطوق الذي ضربه الجيش السوري وحلفاؤه على الأحياء الشرقيّة الخاضعة لسيطرة المسلّحين قبل أيّام. و بالمفاهيم العسكرية فإن سيطرة الجماعات المسلحة علي هذه المناطق لا تعني (تثبيتها) اي الحفاظ عليها، فمعارك الكر و الفر مستمرة، و الطوق العسكري السوري قيد اولي الاختبارات النارية. الامر الذي فرض ضرورة العمل المشترك بين جميع التنظيمات المسلحة الارهابية، و يمكننا ادراك مصيرية المعارك الجارية الان بعد تغيير جبهة النصرة لإسمها الحركي ل " فتح الشام "، وهي خطوة تعد يمثابة إعادة تدوير تلك الجماعة الارهابية في الصراع السوري و دمجها في أطر "المعارضة المعتدلة"، و ربما الضغط علي الروسي لحذفها من بنك اهداف غارات مقاتلاته، و هو ضغط لن يهتم به الروس كثيراً فالمعركة جداً مصيرية و بنك الاهداف يطال جميع الكيانات المسلحة علي الارض عدا الجيش السوري و وحدات الاكراد العسكرية. وصلت صباح اليوم فرق من نخبة الحرس الجمهوري السوري علي اطراف مدراس الحكمة و مشروع 1070 شقة لاسترجاع تلك النقاط الهامة و الوقوف بجدّية لحماية إنتصار حلب، التي تحولت بحق إلي ستالينغراد اخري، و لكن سورية خالصة. نصف الاستدارة التركية تجاة موسكو، و ارتدادها للداخل، و قٌبيل ذلك، فشل التعزيزات التركية الأخيرة قبل الانقلاب في إدلب، و عزلها عن حلب،قد حقق فرصة لن تُعَوض بحسم معركة حلب، وهي المعركة التي تنعكس انتصاراتها العسكرية اضعافاً في الأروقة السياسية، و التي ستكون بلا شك بشروط سورية حال إتمام الإنتصار و الثبات أمام محاولات الاختراق و كسر الطوق العسكري من الارهابيين. منعطفات الحرب السورية سبعة، هي: غزوة دمشق الكبرى وتفجير مبنى الأمن القومي وغزوة حلب الكبرى وسقوط أحيائها الشرقية بيد المعارضة في تموز 2012؛ تطويق الجيش وحلفائه لغوطة دمشقالشرقية في نيسان 2013 وحماية العاصمة ثم بدء تحرير الحدود اللبنانية السورية؛ صفقة الكيميائي في أيلول 2013؛ إعلان الخلافة الداعشية في حزيران عام 2014، ثم بدء التدخل الأميركي في العراقفسوريا؛ اندفاعة المعارضة في إدلب ربيع عام 2015؛ دخول سلاح الجو الروسي الحرب في أيلول 2015 وصولاً إلى هدنة شباط 2016؛ ثمّ... تطويق الجيش لمدينة حلب. كل هذه المنعطفات بإنتصاراتها و هزائمها تصب في شئ واحد .. تحرير حلب .. لذا من المرجح أن تشهد خطوط التماس في جنوبي و غرب حلب لتطورات عنيفة قد تكون مصحوبة بهجمات متزامنة لتنظيم داعش علي طريق حلب خناصر، بهدف حرمان الجيش من خط امداده الوحيد في المناطق المسيطرة عليها جنوباً و لتشتيت تركيزه و قدراته النارية من جهة أخري، لكن المؤكد أنه تم تحييد التركي من المعركة و جاري تقليم أظافره بالداخل السوري عبر حصار و قتال الجماعات التي يديرها. كلما ضاق الخناق عليهم، كلما تكشفت اوراقهم، و كلما رأي الجمهور الذي انخدع بحملات "حلب تحترق" و رأي بأم عينه، مقاتلي جبهة النصرة في كتف احرار الشام و جيش الفتح و الجيش الاسلامي والجيش الحر وباقي جماعات "المعارضة المعتدلة". وحده الجيش السوري من صعّب بإجراءاته الإستباقية (عفو رئاسي عن كل من استسلم و فتح ممرات لخروج المدنيين) و بإنتصاراته العسكرية التي أظهرت المعدن الحقيقي للمعارض المعتدل و الذي لا يختلف ابداً عن الارهابي آكل الأكباد و القلوب، حملات تزييف الحقائق والتدليس والكذب. وحده الجيش السوري هو من حطّم أسطورة (حلب تحترق) و فرض أمام الجميع الحقيقة الكاملة بأن (حلب تنتصر).