تمر تركيا بفترة مخاض عسير عكسه الانقلاب الفاشل على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي نفذته مجموعة من عناصر المؤسسة العسكرية قبل عشرة أيام. المحاولة الانقلابية الفاشلة من الناحية العملية أربكت المشهد التركي على مستوى السياسة الداخلية، لكنها من الناحية النظرية مهدت لتداعيات خطيرة على المستقبل التركي تفضي في نهاية الأمر إلى نتائج على المدى المتوسط، قد لا تكون بعيدة عن أهداف الانقلاب، وبالتالي يؤول وضع الحكم في تركيا مستقبلًا كما لو أن الانقلاب لم يفشل، خاصة أن أردوغان بات يعبث في ملفات خطيرة، أحدهم متعلق بوضع الحريات وحقوق المواطنين الأتراك، التي يضغط عليها بسلاح "التطهير"، والآخر متعلق برسم السياسة الداخلية للدولة والأحزاب المعارضة بسلاح "الدستور الجديد". بدء الحديث عن دستور جديد يعد أردوغان المستفيد الأول من نتائج الانقلاب الفاشل؛ فالسلطان العثماني وظّف المحاولة الانقلابية لصالحه، ولم ينتظر طويلًا للحديث عن رغبته الجامحة في تعديل الدستور، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، أن الأحزاب والقوى السياسية التركية أجمعت على ضرورة تبني البلاد دستورا جديدا، وإنقاذها من إرث دستور 1980 الذي تعيش في ظله تركيا. وخالف أردوغان توقعات كثير من المراقبين الذين اعتقدوا أنه سيتنازل عن فكرة تعديل الدستور داخل البرلمان والبقاء على حالة التوافق السياسي، التي ظهرت في وقت محنة الانقلاب العسكري، خاصة أن كل الأحزاب السياسية المعارضة ترفض التعديلات الدستورية التي يريد إقرارها الرئيس التركي. موقف المعارضة من الدستور الجديد حديث يلدريم عن وجود أرضية مشتركة مع قادة المعارضة الرئيسية لإجراء تعديلات دستورية "محدودة" عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة، محفوف بالمخاطر، خاصة أن لقاء أردوغان بالمعارضة اقتصر على حزبي الشعب الجمهوري "الأتاتوركي" بقيادة كمال كيليتشدار أوغلو، والحركة القومية بقيادة دولت بهجلي، وتجاهل الأحزاب الثمانية الأخرى، من بينها حزب الشعوب الديمقراطي بقيادة صلاح الدين ديمرطاش، الذي كاد أن يطيح برغبة حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة منفردًا، في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية التركية في يونيو 2015، فلولا الجولة الثانية التي رجحت كفة العدالة والتنمية في نوفمبر الماضي، لما استطاع الحزب الحاكم من تشكيل حكومة منفردة، الأمر الذي سيضطره للجوء إلى حكومة ائتلافية. وتجاهل اللقاء أيضا أحزاب «الديمقراطي اليساري» الذي يتمتع بتأثير سياسي كبير، ومنظمة اتحاد الشباب التركي الناشطة على الأرض التركية، وحزب العمل التركي، ويساري علماني، والحزب الشيوعي التركي، وحزب تركيا المستقلة، "السعادة" حزب إسلامي، بالإضافة للحزب الاشتراكي العمالي. كما لا يجب أن نغفل وجود الكيان الموازي للدولة، المتمثل في حركة المعارض فتح الله جولن، كحركة صوفية دعوية تنتمي إلى أعماق المجتمع الأهلي التركي الذي كان دوما حاضنا للحركة الاحتجاجية، وتحالف أردوغان معها لمدة طويلة لأغراض انتخابية، وكان يقدم نفسه قريبا من مشربها الروحي، قبل أن ينقلب عليها فيما بعد، حتى أنه اتهمها مؤخرًا وبشكل مباشر بالانقلاب الذي تعرض له في 15 يوليو الجاري. «محدودية» تعديلات الدستور التركي صحيح أن يلدريم قال إن هناك أرضية مع المعارضة التركية الرئيسية لإجراء تعديلات دستورية وصفها بالمحدودة، لكن هذا لا يمنع أن الشيطان يكمن في التفاصيل، خاصة أن وصف يلدريم التعديلات الدستورية بالمحدودة يتناقض كليًا مع تصريحات نائبه، حيث قال نعمان قورتولموش، نائب رئيس الوزراء، في وقت سابق، إن الدستور الحالي "عسكري غير ديمقراطي"، وأكد أن الحكومة التركية تريد إعداد دستور جديد، وليس تعديل الدستور الحالي فقط، الأمر الذي ينسف فرضية محدودية تعديل الدستور إلى هدم الدستور وإعادة بنائه من جديد. وحتى لو تم الارتكاز على الاتفاقات الحالية بين أردوغان والمعارضة الرئيسية، فلا تنبئ بتوافق مطلق حول جميع الأمور، فبالأمس، توافق زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كلتشدار اوغلو، مع أردوغان حول مسألة مناهضة الانقلاب على الديمقراطية، لكنه في المقابل طالب أردوغان بالابتعاد عن التعذيب وسوء المعاملة والقمع والتخويف للمعارضين. ويجب أن لا ننسى أن حزب الشعب الجمهوري لا يمكن أن ينظر إلى حزب العدالة والتنمية إلا بنظرة أن الحزب الحاكم هزم العلمانية الأتاتوركية في تركيا، رغم أن أردوغان مازال يكرر حتى بعد فشل الانقلاب الأخير أن حزبه ليس دينيا، لكنه ليبرالي محافظ يتشبث بالعلمانية. ويجب التذكير بأن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عارض الانقلاب قبل الإعلان عن فشله، لكن هذا لا يعني بأنه على توافق مع حزب العدالة والتنمية في الإجراءات التي قام بها أو حتى التي ينتويها. نقاط جوهرية للاختلاف في الدستور مؤخرًا، ركز الرئيس التركي، أعقاب الانتخابات التشريعية الأخيرة في بلاده، على المطالبة بضرورة تبني تركيا نظام الحكم الرئاسي عوضا عن البرلماني القائم في البلاد منذ نشأة الجمهورية التركية سنة 1923، حيث شدد أردوغان على ضرورة تنظيم استفتاء في البلاد على تعديل الدستور بما يجعل تركيا جمهورية رئاسية لا برلمانية. في المقابل، ترفض المعارضة التركية هذا الطرح جملة وتفصيلا، وتكيل الاتهامات لأردوغان بالسعي من خلال تعديل الدستور وتبديل نظام الحكم القائم، إلى احتكار السلطة في البلاد. ويبدو أن هواجس المعارضة التركية من تعديل الدستور التركي ستكون قابلة لتضخم أكثر، خاصة في ظل جملة من الإجراءات الاحترازية التي اتخذها أردوغان في أعقاب الانقلاب الفاشل، حيث واصل عمليات التطهير ضد المعارضين رغم بلوغ عدد المقالين من مؤسسات الدولة إلى 70 ألف شخص، وإلغاء جوازات سفر 1,5 ألف مواطن، كما قرر إغلاق أكثر من 1,5 ألف مدرسة ومؤسسة تعليمية خاصة، للاشتباه بارتباطها بشكل أو بآخر بالمعارض جولن، واعتقل مئات العسكريين على اختلاف رتبهم، وأوقفت 200 قاض ونائب عام، كما اعتقل 42 صحفيا، بالإضافة لفرض حالة الطوارئ على البلاد لمدة 3 أشهر.