أزمة تاريخية تشتعل من حين إلى آخر، وصراع بين دولتين يتجدد، ثم يتجمد بشكل مؤقت، لكن ما يلبث أن يعود للاشتعال بتصريح مفاجئ من أحد الطرفين أو كليهما؛ لتظل الأمور على حالها، حتى يخمدها قرار أو مفاوضات مصالحة، والتي لم تفلح يومًا في إنهاء الأزمة. سبب الأزمة ترجع الخلافات بين أرمينياوأذربيجان إلى جذور تاريخية ضاربه في أعماق الدولتين، حيث بدأ النزاع بينهما في عشرينيات القرن الماضي، حول إقليم "ناغورني قره باغ"، الذي يعتبر بؤرة ساخنة في وسط القوقاز، الأمر الذي يستدعي التعرف على طبيعة هذا الإقليم، الذي تسبب في هذه الخلافات والأزمات السياسية بين جارتين. "ناغورني قره باغ" أحد أقاليم أذربيجان، يقع بين إيرانوروسياوتركيا، غرب العاصمة الأذرية باكو بحوالي 270 كلم، لا تتجاوز مساحته 4800 كم مربع، ويبلغ عدد سكانه حوالي 145 ألف نسمة، 95% منهم ينتمون للأرمن، وال5% الآخرون من أعراق أخرى، أي أنه أذربيجاني من الناحية الجغرافية وأرميني من الناحية السكانية والديموجرافية، وعلى الرغم من صغر مساحته، إلا أنه شهد العديد من الخلافات التي امتدت لسنوات طويلة بين كلا الطرفين الأرميني والأذربيجاني، وتسبب في حرب شرسة بين الطرفين، حصدت خلالها أرواح ما لا يقل عن 35 ألف شخص. بداية الخلافات في عام 1805 كانت هذه المنطقة جزءًا لا يتجزأ من روسيا، وشهدت معارك خلال الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة البلشفية عام 1917، وخلال الحكم السوفييتي ألحقت منطقة ناغورني قره باغ بجمهورية أذربيجان السوفييتية، وبدأ النزاع عندما أعلن رئيس الاتحاد السوفييتي السابق، جوزيف ستالين، ضم إقليم قره باغ إداريًّا إلى أرمينيا عام 1923، رغم وقوعه في قلب أذربيجان، وهو الرئيس الذي رفع شعار "فرق تسد"، وحرض على بث الفرقة بين الجماعات العرقية داخل جمهوريات الاتحاد السوفييتي المترامية الأطراف؛ لتنطلق شرارة الصراع بين البلدين، وتحتد كثيرًا في عام 1988، حيث شهد الإقليم حربًا ضارية بين أرمينياوأذربيجان، أوقعت نحو 30 ألف قتيل، وأدت إلى نزوح مئات آلاف الأشخاص، غالبيتهم من الأذربيجانيين، بعد مطالبات داخل المجلس السوفييتي بانضمام الإقليم قره باغ نهائيًّا إلى أرمينيا. في نهاية عام 1991، وبالتحديد في 10 ديسمبر، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي وإعلان كل من أرمينياوأذربيجان استقلالهما، صوت سكان الإقليم في استفتاء بشكل كاسح لصالح الاستقلال عن أذربيجان وقيام جمهورية مستقلة ليست تابعة لأذربيجان ولا لأرمينيا، وحينها أعلن هذا الإقليم استقلاله عن أذربيجان، دون أن يحظى باعتراف أي دولة ولا حتى أرمينيا، لكنه ظل تابعًا باعتبار المجتمع الدولي إلى أذربيجان، وهو ما اعترضت عليه الأخيرة بشدة، واعتبرته انفصالًا تم بتخطيط من الانفصاليين الأرمن بدعم من أرمينيا، في الوقت الذي مدتهم الأخيرة فيه بالسلاح والأموال، وهو ما أيقظ الحرب التي كانت خامدة تحت الرماد منذ عام 1988 من جديد. في عام 1993، وبعد سنة تقريبًا من الحرب، سيطر الأرمن على منطقة آمنة داخل أذربيجان، تقع بين ناغورني قره باغ وأرمينيا، وتبلغ مساحتها نحو 8 آلاف كيلومتر مربع، أي نحو 20 % من مساحة أذربيجان، وفي مايو عام 1994 تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إلا انه لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام، حيث جرت حينها مفاوضات تحت إشراف ورعاية مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تضم "روسياوالولاياتالمتحدة وفرنسا"، إلا أن الطرفين لم يتوصلا إلى اتفاق حول الوضع الذي ستكون عليه منطقة ناغورني قره باغ. استمرار الأزمة اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الطرفان لم يمنع الاشتباكات التي باتت تندلع بشكل متقطع بين الحين والآخر، حتى إن الإعلان الذي يدعو إلى التسوية السلمية للنزاع الذي وقعه الطرفان في نوفمبر عام 2008 لم يفلح في منع تجدد الاشتباكات والمعارك، ففي أغسطس عام 2014 تقاتل الطرفان، وقتل عدد من الجنود الأذربيجانيين في اشتباكات مع الأرمن، وفي نوفمبر من العام ذاته أسقطت القوات الأذربيجانية مروحية عسكرية أرمينية؛ مما أدى إلى مقتل أفراد طاقمها الثلاثة، وبررت وزارة الدفاع الأذربيجانية الواقعة بأن هذه المروحية حاولت مهاجمة مواقع للجيش الأذربيجاني. في مطلع إبريل الماضي شهد الإقليم آخر المعارك بين الطرفين، حيث تجددت الاشتباكات خلال الليلة الفاصلة بين 2 و3 إبريل الماضي؛ مما أدى إلى مقتل نحو 30 شخصًا في صفوف الطرفين، 18 منهم في صفوف القوات الأرمينية، و12 من القوات الأذربيجانية، وتبادل الطرفان الاتهامات بالمسؤولية عن خرق الهدنة القائمة منذ أمد بعيد. حروب بالوكالة بعيدًا عن الصراع المعلن بين أذربيجانوأرمينيا، فإن هناك صراعًا آخر يدور بالوكالة بين الولاياتالمتحدةوروسياوإيرانوتركيا، تتصادم فيه المصالح الإقليمية والدولية، وتلعب فيه هذه الدول بخيوط الأزمة من خلف الستار، فتركيا تقف مع أذربيجان في تشديد الحصار على أرمينيا، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في العديد من المناسبات، التي أكد خلالها أنه سيقف إلى جوار أذربيجان في حربها "العادلة" مع أرمينيا. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أولها الحساسية التركية من الأرمن؛ بسبب اتهامهم لها بارتكاب مذابح بحقهم في الحرب العالمية الأولى، حين ثاروا على الدولة العثمانية عام 1915، إضافة إلى العلاقات التاريخية التي ترتبط باللغة والدين، فغالبية سكان أذربيجان مسلمون على عكس أرمينيا التي تقطنها أغلبية مسيحية، ناهيك عن أن أذربيجان دولة ذات غالبية عرقية تركية، إضافة إلى التعاون الوثيق بينهما في المجال العسكري، وتبادل الوفود العسكرية رفيعة المستوى، كما أن أذريبيجان تحتل المرتبة الثالثة في قائمة الدول التي تستورد منها تركيا الغاز الطبيعي، بعد روسياوإيران. أما روسيا فتقف بدرجة كبيرة مع أرمينيا، وتعتبر الأخيرة نفسها حليفًا قريبًا لها، حيث كشفت تقارير سابقة عن دعم موسكو للأرمن بالسلاح إبان حربها ضد أذربيجان 1992-1994، إضافة إلى سعي روسيا إلى تطوير الاقتصاد الأرميني والحفاظ على درجة عسكرية جيدة لدى الدولة الأرمينية، وهو ما دفعها إلى إقامة تعاون عسكري معها أقامت روسيا بموجبه القاعدة العسكرية "يريبوني" في العاصمة الأرمينية يريفان عام 1995. أما من جهة إيران فهي تدعم الطرف الأرميني في الأزمة؛ لعدة اعتبارات، أولها أنه شريك اقتصادي هام بالنسبة لطهران، حيث تحتاج أرمينيا إلى النفط الإيراني، بينما تنافس أذربيجانإيران على بيع النفط، ومن جهة أخرى فإن الدعم الإيرانيلأرمينيا يستند إلى جذور تاريخية، فقد تحالفت أذربيجان في بداية استقلالها مع تركيا لترويج مشروع الجامعة الطورانية، والذي يعد نجحه إزاحة لإيران من المنطقة بشكل كلي، وفي الوقت نفسه تعتبر إيران بالنسبة لأرمينيا عنصر داعم هامًا في ظل محاصرة الأخيرة من الشرق بأذربيجان ومن الغرب بتركيا المعاديتين لها. الولاياتالمتحدة تتخبط بين دعم أذربيجانوأرمينيا، حيث تسعى للحفاظ على مصالحها في كلا البلدين، ففي الوقت الذي يدين فيه البيت الأبيض احتلال الأراضي الأذرية من الأرمن ونزوح آلاف الأذريين، يرفض الكونجرس تقديم المساعدة الإنسانية لملايين اللاجئين الأذريين بموجب تعديله لقانون دعم الحرية المعروف بالبند 907 لعام 1992، حيث ترى واشنطن أن أذربيجان شريك سياسي واقتصادي استراتيجي في المنطقة، وبوابة بين أوروبا وموارد وأسواق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأحد الموردين الرئيسيين للنفط في أوروبا، فيما تتجه أحيانًا إلى دعم أرمينيا؛ نظرًا لنفوذ اللوبي الأرميني القوي في الكونجرس الأمريكي. وعلى الرغم من وجود العديد من الاتفاقيات التي دعت مرارًا إلى وقف إطلاق النار وحل النزاع بشكل سلمي، وطرح الدول الوسطاء بعض الحلول، إلا أن كل ذلك فشل حتى الآن في تخفيف التوتر ونزع فتيل الأزمة بين الطرفين وإنهاء هذا النزاع الدموي الذي استمر لعقود، الأمر الذي ارجعه بعض المراقبين إلى أزمة الثقة بين الطرفين والعداء التاريخي ومشاعر الكراهية التي يكنها كل طرف للآخر، إضافة إلى تدخل بعض الدول الإقليمية المحيطة في الصراع لتأجيجه؛ حفاظًا على مصالحها.