بدأت إسرائيل في الفترة الأخيرة مرحلة جديدة من إدارة علاقاتها الخارجية بدول المنطقة، على أساس ثلاثة محددات استراتيجيه أولها أن تكون لها الريادة واليد العليا في معادلة العلاقات هذه، سواء على مستوى العلاقات الثنائية بينها وبين دول لها علاقات رسمية معها مثل الأردن ومصر وتركيا واليونان وقبرص، أو مع الدول التي ليس بينها وبين تل أبيب علاقات رسمية وإنما مصالح مشتركة مثل السعودية ودول الخليج، والتي دافعها الأساسي في تطوير علاقاتها بإسرائيل هو التصدي لإيران. وثاني هذه المحددات هو أن تمتد مجالات التعاون بين إسرائيل وهذه الدول على أساس جيوسياسي وليس فقط عبر اللقاءات السرية والعلنية، أي أن يكون هناك تماس مباشر مع دول الجوار العربي، سواء كان هذا التماس اقتصادي مثل غاز شرق المتوسط وتقاطعه مع علاقاتها الخارجية مع كل من مصر واليونان وقبرص، أو أمني في مع مصر والأردن وكذلك الدول الداعمة للجماعات المسلحة في سوريا مثل قطر والسعودية، والتي توفر عبر هذه الجماعات حزام أمني لحدود إسرائيل مع سوريا. وثالث هذه المحددات استثمار وتوظيف مجالات التعاون السابقة مع الدول المحيطة بها إلى خلق فرص لتوسيع النفوذ الإسرائيلي في ما يعرف في الأدبيات الجيوسياسية الإسرائيلية بدول ما وراء الطوق، والتي تعتبر دائرة من ثلاث دوائر حسب نظرية الأمن الإسرائيلي المعروفة ب"الدوائر الثلاث"، والتي تعد أحد ركائز العقيدة الأمنية لإسرائيل. هذه النظرية التي دُشنتها إسرائيل في خمسينيات القرن الماضي تشير باختصار إلى ثلاث دوائر جيوسياسية تحيط بها، الأولى هي دول الطوق ممثلة في مصر والأردنوسوريا ولبنان –ومؤخراً قطاع غزة-، والثانية هي الدول العربية المحيطة بدول الطوق وهي العراقوتركيا والسودان وليبيا والسعودية، والثالثة هي الدائرة الأبعد وفيها دول مثل الهند وإيران وباكستان وأثيوبيا ودول القرن الأفريقي مع ترك القوس مفتوحاً حسب دواعي التطورات على مدار العقود السابقة. ودول الدائر الثالثة هذه تمثل للسياسة الخارجية لإسرائيل فرص جذب أو تنفير لها ولدول الدائرة الثانية والأولى، أي إن لم تستطيع إسرائيل إقامة علاقات إيجابية معها تستثمر لصالح صراعها مع دول الدائرة الأولى والثانية، فأنها تعتمد أن تكون علاقة دول الدائرة الثالثة وبالحد الأدنى على عدم وفاق مع دول الدائرة الأولى والثانية. لتطور هذه النظرية على مدار العقود السابقة وخاصة منذ أواخر السبعينيات حسب متغيرات طرأت على مجموع هذه الدول، أهم هذه المتغيرات هي معاهدة السلام مع مصر التي حولت الأخيرة من عدو إلى صديق وبالحد الأدنى طرف محايد، وأيضاً الثورة الإيرانية التي حولت طهران من حليف موثوق لإسرائيل في عهد الشاه، إلى عدو إقليمي ما لبث بعد ثلاث عقود إلى أن أصبح العدو الأول لإسرائيل على مستوى المنطقة وربما العالم، وهو ما دعا إلى تمدد علاقات إسرائيل بحسب النظرية نفسها إلى دول أخرى مثل أذربيجان المحاذية لإيران منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتطوير العلاقات العسكرية معها إلى حد إقامة قواعد جوية هناك لتهديد طهران. وقياساً مع الفارق بالنسبة للدول الأفريقية مثل أثيوبيا ودول القرن الأفريقي كإريتريا وجيبوتي، فأن معادلة العلاقات معها لم تشذ عن السابق وحسب متغيرات رئيسية طرأت على علاقة إسرائيل بدول الطوق، وتحديداً مصر، بالإضافة إلى فوائد جيوستراتيجية أخرى مثل إيجاد موطئ لنفوذ إسرائيل على البحر الأحمر والقرن الأفريقي متمثلاً في قواعد عسكرية في جيبوتي إريتريا – وكذلك تعاون استراتيجي متعدد المجالات مع دول حوض النيل وعلى رأسها أثيوبيا. وغنياً عن الذكر أنه قبل اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية كانت هذه المناطق مسرح صراع وتحدي واستجابة بين القاهرة وتل أبيب، وإن بقيت الغلبة حتى بعد اتفاقية السلام للقاهرة، مروراً بمرحلة بدأت منذ منتصف التسعينيات وهي التعاطي بندية بين العاصمتين حول التواجد في هذه المنطقة ولكن طبقاً لخطوط حمراء حددتها القاهرة على ضوء محددات أمنها القومي، والذي يرتبط بشكل مباشر بعمقها الأفريقي ودول حوض النيل، ولكن مع الانسحاب المصري من هذه المناطق ومراكمة إخفاقات على مدار العقود الثلاث الماضية والتي أفضت مؤخراً إلى فشل ليس فقط بإيجاد فراغ شغلته إسرائيل ودول أخرى هناك، ولكن أيضاً استطاعة هذه الدول التي احتلت الفراغ الذي خلفته القاهرة في استحداث أوراق ضغط عليها أخرها وأهمها ملف سد النهضة وعلاقته بالأمن المائي لمصر، وما كان لإسرائيل ودول أخرى من نفوذ على هذا الملف ودعم لأثيوبيا فيه، وبالتالي حتى مع سلمية العلاقات بين القاهرة وتل أبيب والتي وصلت مؤخراً إلى حد التحالف الاستراتيجي، لم تجد إسرائيل غضاضة من كسب مزيد من أوراق القوة شبه المجانية التي حصلت عليها من مصر لتكون لتل أبيب اليد العليا في معادلة علاقاتها بالقاهرة وربما للمرة الأولى منذ 1979، وأيضاً بشكل ثنائي بين الدولتين وليس حتى تحت المظلة والرعاية الأميركية، والتي كانت توفر لإسرائيل هامش تفوق أمام الندية المصرية في أكثر من ملف ومجال؛ لنجد الأن أن التفوق المطلق في المعادلة سابقة الذكر أصبح لإسرائيل للدرجة التي ستضطر فيها مصر إلى التسليم بأهمية ونفوذ تل أبيب في المجال الحيوي لمصر جنوباً. وليس هذا فحسب ولكن أيضاً التسليم بأن إسرائيل أصبح لها اليد العليا والمبادرة في إدارة أزمات دول حوض النيل مع مصر ومعادلة العلاقات بين الأخيرة ودول الحوض وعلى رأسها أثيوبيا، وهو الأمر الذي أشارت إليه أمس صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في سياق زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري لإسرائيل، فتحدثت الصحيفة أن أجندة الزيارة المميزة في ظل المناخ الإيجابي والتعاون بين تل أبيب والقاهرة تتصدرها أولوية "حل أزمة السيسي الأساسية" في أثيوبيا بعد جولة نتنياهو الأفريقية التي وصفتها الصحيفة بالناجحة والمثمرة والمطمئنة للجانب الأثيوبي بضمانة عدم لجوء القاهرة للتصعيد مع أديس أبابا، بل وتصدر إسرائيل بالوساطة بين البلدين وما لذلك من مردود إيجابي على صعيد السياسة الخارجية لإسرائيل. جدير بالذكر هنا أن أنباء تسربت بخصوص جولة نتنياهو الأخيرة وخاصة في أثيوبيا التي وقعت مع إسرائيل بروتوكولات تعاون عسكري من ضمنها الاتفاق على صفقة أنظمة دفاع جوي تشمل صواريخ وأنظمة إنذار مبكر، بالإضافة إلى توسيع التعاون الأمني والاستخباراتي بين الدولتين، مع تلميح حول تقديم تل أبيب تطمينات بشأن دعمها الكامل لها تجاه أزمة سد النهضة في حال أن تصاعدت الأمور مع مصر إلى حد التهديد العسكري. وكاستنتاج عام فإن التطورات الأخيرة على صعيد العلاقات بين مصر وإسرائيل يشي ببدء مرحلة جديدة ملامحها الأولية هو اعتماد القاهرة على تل أبيب في إدارة ملفات خارجية جديدة على مسار العلاقات الثنائية بينهم، والتي كانت ترتكز في العادة على وساطة القاهرة في ملفات مثل عملية السلام والأوضاع في غزة، وهو ما تطور حالياً إلى إدارة إسرائيلية لأزمات مصر الخارجية وليس وساطة على غرار ما كانت تضطلع به القاهرة في العقود الثلاث الأخيرة. هذا الأمر له دلالة استراتيجيه هامة تكمن في انعدام الخيارات التي تملكها القاهرة في ملف السد الأثيوبي وانسحاب ذلك على معظم ملفات السياسة الخارجية، التي ستصبح إسرائيل طرف أساسي فاعل فيها وشبه وحيد بالنسبة لمصر، في حين أنه في المقابل تمتلك إسرائيل بدائل عديدة في إدارة ملفاتها الخارجية والأمنية، فعلى سبيل المثل لجأت إسرائيل أكثر من مرة فيما يتعلق بقطاع غزة إلى توسيط أطراف إقليمية أخرى على رأسها تركيا. وبشكل أعم فإن المرحلة الجديدة في العلاقات بين تل أبيب والقاهرة لا تخرج عن الإطار العام الحالي للعلاقات الإقليمية وريادة ومحورية الدور الإسرائيلي والتي عوضت بسماتها هذه حرمان تل أبيب التاريخي من الاندماج الطبيعي في المنطقة سواء بعلاقات متجذرة مع شعوبها، أو عبر أطر سياسية إقليمية مثل الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي، لتصبح إسرائيل الدولة المحورية التي تسعى إليها دول عربية وأفريقية لحل مشاكلها سواء بالتحالف وتقاطع المصالح كما الحال بالنسبة للتقارب السعودي- الإسرائيلي وعلاقته بإيران، أو لقلة الحيلة وانعدام البدائل كما الحال بالنسبة لمصر وأثيوبيا.