القدس ذلك اللحن الذي يتردد في سمع الزمان عربيا صاعدا في أبهاء الروح، مرنما بصلوات وتسابيح تحفظها الحجارة المقدسية وتعيدها كلما أوشكت النقوش أن تفارقها، وكلما اجترأت يد الغريب أن تقتلعها، وكلما تكسرت لتصير قذائف في أيدي أبنائها، أو مصوبة في مقلاع يرهب الصهيوني المدجج بالسلاح والغارق في مخاوفه حتى أذنيه. رويدا رويدا تضعف قبضة الروم على المدينة المقدسة، بعد أن تعرضت دولتهم لهزات عنيفة نتيجة لبعض الاضطرابات الداخلية، ويستغل الفرس ذلك عام614م فيرسل كسرى جيشه الجرار بقيادة "خسرويه" فيجتاح المدينة، وينحر من أهلها المسيحيين تسعين ألفا، وتهدم كنيسة القيامة ومعظم الكنائس والأديرة، ويقبض على كبير البطاركة "زخاريا" ويرسل أسيرا إلى المدائن، والملاحظ أن يهود المدينة لم يمسوا بسوء في تلك الأحداث، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن اليهود تواطئوا مع الفرس، وحرضوهم على تلك الأعمال الوحشية، وتشير بعض الشواهد إلى أن اليهود هم من تورطوا في قتل الجزء الأكبر من أهل المدينة. تدخل "إيلياء" في دوامة المجاعة والقحط لسنوات، إلى أن يستعيد الروم بعض قوتهم فيخرجوا لملاقاة الفرس عام 627م وينتصر الروم كما بشر بذلك القرآن الكريم، ثم يتصالح الفريقان ويتم تبادل الأسرى وإعادة الغنائم التي نهبها الفرس، وكان أغلبها من محتويات الكنائس والأديرة وعلى رأسها الخشبة المقدسة، التي حملها "هرقل" على كتفه ودخل بها المدينة في الرابع عشر من أيلول عام629م، وكان انتقام المسيحيين من اليهود يومئذ مروعا، وامتلأت طرقات المدينة بجثثهم جزاء وفاقا لما اقترفوه عندما اجتاح الفرس المدينة قبل خمسة عشر عاما. في العام 636م اجتاحت جيوش المسلمين بلاد الشام، وانكسرت شوكة الروم في معركة اليرموك؛ فأمر أبو عبيدة عامر بن الجراح -القائد العام لجيوش المسلمين بأرض الشام- بأن تتحرك الجيوش لفتح بيت المقدس، ولمدة عشرة أيام دارت معارك عنيفة خارج المدينة، وفي اليوم الحادي عشر وصل أبو عبيدة ومعه نفر من أصحاب الرسول-صلى الله عليه وسلم- فأشعل حماس الجنود، وتحصن الروم بالمدينة التي ضرب المسلمون عليها الحصار لمدة أربعة أشهر، لم يمض يوم منها دون قتال، إلى أن ضعفت مقاومة أهل المدينة وعرضو التسليم؛ على أن يأتي عمر بن الخطاب بنفسه لتسلم مفاتيح المدينة. ويأتي "عمر" ويكتب لأهل المدينة وثيقة أمان، وبذلك عادت القدس إلى العرب واستعادت طابعها العربي، وعاش فيها المسلمون إلى جانب المسيحيين في سلام ووئام، بعد أن حظرت العهدة العمرية دخول اليهود إليها. انقضت فترة الراشدين، ثم جاء الحكم الأموي الذي اتخذ من بلاد الشام مركزا له، فلقد روي أن "معاوية" أخذ البيعة لنفسه ببيت المقدس سنة40ه، كما هو معلوم أن عبد الملك بن مروان هو من أقام قبة الصخرة عام72ه وبدأ تشييد المسجد الأقصى الذي أكمل بناءه ابنه الوليد عام86ه، كما بنى الأمويون بالمدينة بعض القصور إلى الجنوب والجنوب الغربي من المسجد. وفي عصر الدولة العباسية تم تعمير المدينة وتجديد المسجد، بعد أن ضرب الزلزال المدينة لأكثر من مرة، وقد زارها الخليفة المأمون وهو في طريق عودته من مصر بعد قمعه لثورة البشموريين، واستمر الوئام بين أهلها طوال تلك الفترة؛ وكانت المدينة من أكثر بقاع الأرض أمنا وأمانا آنذاك. وعندما بدأ الضعف يدب في السلطة المركزية ببغداد دخلت القدس تحت حكم الطولونيين ، وتلاهم في حكمها الإخشيديون الذين احتلت القدس لديهم مكانة خاصة، إذ أوصى جميع الحكام الإخشيديين أن يدفنوا فيها، وقد كان. في عام359ه استولى الفاطميون على القدس، وسارت أمور المدينة تحت حكمهم على ما يرام، إلا أن عهد الحاكم بأمر الله قد شهد اضطهادا للمسيحيين بالمدينة، فتعرضت كنيسة القيامة للهدم مجددا، كما أمر بهدم عدد من كنائس المدينة، كما ورد أن أهل المدينة بشكل عام نالهم الكثير من الأذى والاضطهاد، لكن هذه الأخبار تتعارض وما ورد عن بناء أول مشفى بالمدينة في ذلك العهد، كما انتشرت بالمدينة دور العلم الفاطمية. أنهى السلاجقة حكم الفاطميين للمدينة عام 463ه ، ولكن الخليفة الفاطمي المستعلي بالله استعادها عام 489ه لكن الفاطميين لم يهنئوا باستعادة المدينة سوى لثلاث سنوات فقط، إذ اجتاح المدينة الصليبيون وقتلوا من أهلها المسلمين تسعين ألفا، واعملوا في المدينة السلب والنهب، ورفعوا الصليب على مسجد قبة الصخرة، واقاموا بطريركا لاتينيا للمدينة وقاموا بتعمير كنيسة القيامة وغيرها من الكنائس، وأقاموا المباني الجديدة لاستقبال الحجاج القادمين من أوروبا. استمر حكم الفرنجة للمدينة نحو تسعين سنة انتهت بهزيمتهم في حطين 583ه ونزولهم على شرط المسلمين بمغادرة المدينة بعد دفع مبلغ من المال عن كل شخص، وبقى المسيحيون المشارقة بالمدينة، وعوملوا معاملة حسنة من جانب المسلمين الذين شمروا عن ساعد الجد، فقاموا بإعادة بناء سور المدينة، وانتشر العمران في المدينة مجددا فأنشئت المدارس كالمدرسة الشافعية، كما أقيم في قلب المدينة مشفى كبير عرف ب "البيمارستان"، روي أنه كان توسعة للمشفى الاول الذي بناه الفاطميون. تولى حكم القدس بعد صلاح الدين ابنه الملك الأفضل الذي وقف المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من الحرم على المغاربة حماية لحائط البراق، وأنشأ فيها مدرسة ثم كان أن ولي حكم القدس الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب الذي عمّر الأقصى والصخرة، وقام بإنشاء مدارس للمذهب الحنفي ، وقد أغرم عيسى بالمدينة إلي حد كبير، ولكنه أصيب بلوثة جعلته يأمر بهدم أسوار المدينة وتخريبها؛ خشية أن تقع في أيدي الصليبيين، ثم مات حزنا على ما فعل. وتلاه بعد فترة وجيزة أخوه الملك الكامل الذي عقد اتفاقا مع الامبراطور فريدريك الثاني ملك الفرنجة سلمه بموجبه القدس ما عدا الحرم الشريف، وسلمت المدينة وسط مظاهر الحزن والسخط والاستنكار سنة 626ه وبقيت في أيديهم حتى 637ه عندما استردها الملك الناصر، ولكن الناصر ما لبث أن سلمها مرة أخرى سنة 641ه ثم عادت إلى المسلمين عام 642ه على يد الخوارزميين حلفاء الملك نجم الدين أيوب ملك مصر. وقد دخلت القدس تحت حكم المماليك عام 651ه حتى عام 922ه وقد حظيت المدينة في عهدهم باهتمام ملحوظ وقام سلاطينهم الظاهر بيبرس وسيف الدين قلاوون والناصر محمد بن قلاوون والأشرف قايتباي وغيرهم بزيارات عدة للقدس، وأقاموا منشآت دينية ومدنية مختلفة فيها كانت آية في فن العمارة، وأجروا إصلاحات كثيرة في قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وقد أنشأ المماليك بالمدينة نحو خمسين مدرسة، وعشرات الزوايا، ثم جعلوها عام 777ه نيابة مستقلة تابعة للسلطان في القاهرة بعد أن كانت تابعة لدمشق. وفي عام 1517م تسقط المدينة في أيدي العثمانيين، ويدخلها السلطان سليم الأول ويبقى فيها لقترة ثم يغادرها إلى القسطنطينية حيث يوافيه الأجل، ثم يتولى بعده ابنه سليمان المعروف بالقانوني، فيولي المدينة اهتماما كبيرا، فيعيد بناء سورها، ويعمر القبة والمسجد وينشئ العديد من الأسبلة، وتنشئ زوجته التكية المعروفة باسم خاصكي سلطان، ويتوالى الولاة من حكام بني عثمان على حكم المدينة، وكان معظمهم معروفون بالجور والعسف فبالغوا في فرض الضرائب الباهظة، مما جعل المقدسيين في ثورة دائمة، حتى سيّر السلطان محمود إليهم جيشا عام 1826م بقيادة عبد الله باشا ولكن المقدسيين أبدو صمودا أسطوريا رغم قلة العدة والعتاد وإزاء هذا الصمود قبل الباشا بإلغاء الضرائب الجديدة وإعلان العفو العام، وما كادت الأمور تهدا نسبيا في المدينة حتى أعلن محمد علي باشا والي مصر الحرب على الدولة العثمانية، وتحرك الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا عام1831م إلى بر الشام؛ فاحتل القدس وسائر المدن الفلسطينية، كما احتل سورية والأناضول حتى وصل إلى كوتاهية، ووقف على أبوب الأستانة، وعندما تدخلت الدول الأوروبية تم إقرار الصلح، فكانت القدس وعدد من المدن الفلسطينية من نصيب الدولة العلوية. عشر سنوات لم تهدأ فيها نار الثورة ضد إبراهيم باشا وجنوده بسبب ما قرره محمد علي من الرسوم والضرائب ونزع سلاح الجميع، في النهاية اضطر إبراهيم باشا إلى مغادرة الشام كلها بعد ما لاقاه من مقاومة في سورية، وهلاك الجند بسبب تفشي وباء الكوليرا؛ لتعود القدس للعثمانيين مجددا حتى عام 1917م الذي وقعت فيه المدينة تحت الاحتلال البريطاني الذي سهّل توافد اليهود من كل حدب وصوب إلى أرض فلسطين، ثم منحهم "بلفور" وعدا بإقامة وطن قومي لهم، حتى حدثت النكبة في 1948م وهي مستمرة إلى يومنا هذا، لكن الأمل ينبعث في النفوس-دائما- كلما تذكرنا ما مر على مدينتنا المقدسة من أحداث استطاعت أن تخرج منها أشد صلابة وقوة، فهي مدينة الله، ومعقد لواء حزبه الذي لا يغلب" …إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ".