زيادة في إقبال «أطباء الأسنان» على انتخابات التجديد النصفي للنقابة (تفاصيل)    المفتي: الرئيس السيسي إنسان لديه نُبل شديد وعزيمة غير مسبوقة    لمواجهة الكثافة.. "التعليم": إنشاء أكثر من 127 ألف فصل خلال 10 سنوات    17.5 مليار جنيه.. قفزة بحصيلة النقد الأجنبي في الأهلي ومصر للصرافة    منها الأرز والسكر والفول واللحمة.. أسعار السلع الأساسية في الأسواق اليوم الجمعة    وزير التنمية المحلية يوجه المحافظات بتطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة بكل قوة وحزم    التوسع في الخدمات الرقمية يجذب الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا المالية    قناة مجانية.. 4 خطوات لمشاهدة مباراة الأهلي ومازيمبي في دوري أبطال أفريقيا    بالصور- انخفاض شديد في درجات الحرارة وسحب كثيفة تغطي سماء الوادي الجديد    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    هنا الزاهد تنشر إطلالة جريئة.. والجمهور يغازلها (صور)    الأزهر للفتوى ينصح باصطحاب الأطفال لصلاة الجُمعة: النبي كان يحمل أحفاده ويؤُم المُصلِّين في المسجد    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    اسكواش - نوران ل في الجول: الإصابة لم تعطلني وتفكيري سيختلف في بطولة العالم.. وموقف الأولمبياد    أول تعليق من كلوب على إهدار صلاح ونونيز للفرص السهلة    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    معمولي سحر وفكيت البامبرز.. ماذا قال قات.ل صغيرة مدينة نصر في مسرح الجريمة؟    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    رئيس الصين يوجه رسالة للولايات المتحدة.. وبلينكن يرد    محامية حليمة بولند تكشف كواليس حبسها    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    رئيس الصين يوجه رسالة للولايات المتحدة، وبلينكن يرد    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    الصحة: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية لحديثي الولادة    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    تراجع ثقة المستهلك في فرنسا بشكل غير متوقع خلال شهر أبريل الجاري    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    الإسكان: تنفيذ 24432 وحدة سكنية بمبادرة سكن لكل المصريين في منطقة غرب المطار بأكتوبر الجديدة    انتداب الطب الشرعي لمعاينة جثث 4 أشخاص قتلوا على يد مسجل خطر في أسيوط    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    في ذكرى ميلادها.. أبرز أعمال هالة فؤاد على شاشة السينما    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    احتجت على سياسة بايدن.. أسباب استقالة هالة غريط المتحدثة العربية باسم البيت الأبيض    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    نائب وزير خارجية اليونان يزور تركيا اليوم    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً علي الدكتور يوسف زيدان :قدسية المسجد الأقصي قبل الإسلام
نشر في المصريون يوم 29 - 12 - 2015

(استمعت إلي حديث الدكتور يوسف زيدان بخصوص المسجد الاقصي ووجدت فيه الكثير من المغالطات التاريخية وعدم الدقة في الاقتباس ونقل المعلومة التاريخية فوجدت من الضروري أن أرد علي بعض ما جاء في هذا الحوار رغم احترامي لشخص الكاتب و لكتاباته السابقة. )
بداية لن أتحدث في هذا المقال عن رأي الدكتور يوسف زيدان في المعراج وإذا ما كان المعراج بالروح والجسد ، أم بالقلب فقط. وأيضاً لن أتحدث عن تفسيره لآيات سورة النجم ، فتلك جدليات قديمة ، صنفت فيها عشرات الكتب من قبل وتحتمل الأخذ والرد ، وإن كنت أتعجب من جدوى طرحها في الوقت الحالي وفي برنامج حواري يشاهده العامة وليس في ندوة متخصصة . ثانياً لن أعلق علي رأي الكاتب بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي والذي يريد أن يحصر دوافعه في الجانب السياسي فقط و أن ينزع عنه الدافع الديني رغم أن الدافع الديني هو المحرك الأساسي لهذا الصراع ، علي الأقل من الجانب اليهودي ، والذي لم يكن ليجمع شتاته أو ليؤسس لنفسه وطن في أرض فلسطين دون استغلال نصوص التوراة أو بتعبير أكثر دقة تفسيرات هذه النصوص في تحقيق هذا الهدف . وعموماً فإن الهدف من هذا المقال هو مناقشة تاريخية لما ورد علي لسان الدكتور يوسف زيدان بخصوص تاريخ المسجد و قدسيته و التي يقول عنها الكاتب أنها قد أقحمت علي الفكر الإسلامي في عام 73 هجريا حينما قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ببناء المسجد كمناورة سياسية لصرف الناس عن السفر الي الحجاز والتي كانت تحت سيطرة عبد الله بن الزبير الثائر علي حكم بني أمية. وقال المؤرخ بالنص "أن المسجد الأقصي الموجود حالياً في بيت المقدس لم يكن له وجود وقت أن نزلت آية " سبحان الذي أسري بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " “ ، لأن المسجد ببساطة قد بُني عام 73 هجريا أي بعد نزول الآية بستة عقود. ثم استدل الكاتب علي رأيه برواية ذكرها أبو عبد الله الواقدي - وهو مؤرخ عاش في القرن الحادي عشر الهجري - تتحدث عن مسجد آخر اسمه المسجد الأقصي موجود في مدينة تسمي بالجعرانة تقع علي بعد ستين كيلومتر من المدينة المنورة . ثم ربط الكاتب في خلط عجيب بين هذا المسجد والمسجد الأقصي المذكور في آية سورة الإسراء ليدلل علي رأيه، وطالب الجمهور بأن يقرأ ويفهم ما ورد في كتب في التاريخ أولا قبل أن يستمعوا إلي آراء رجال الدين. والحقيقة أن الكاتب قد استدل استدلالاً خاطئاً وغير مفهوم علي رأيه بالحديث المرفوع عن الواقدي. فالواقدي لم يشر من قريب أو بعيد إلي أن مسجد الجعرانة هو المسجد المقصود في سورة الإسراء. وكل ما ذكره الرجل أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد أحرم في عمرته الثالثة من مسجدٍ أقامه في منطقة الجعرانة عند العدوة القصوي سماه الناس بأسم المسجد الأقصي تمييزاً له عن مسجد بني لاحقاً عند العدوة الدنيا و بناه رجل من قريش اسمه عبد الله بن خالد الخزاعي و أطلق عليه الناس اسم المسجد الأدني . وكل ما ذكره الواقدي عن هذين المسجدين الأقصي والأدنى إنما كان يتعلق بتحديد مكان الإحرام الذي أحرم منه النبي صلي الله عليه وسلم في تلك العمرة. و هذا هو نص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي – تحقيق مارسدن جونس – مكتبة الأسكندرية – الطبعة الثالثة :
«انتهى رسول الله إلى الجعرانة ليلة الخميس فأقام فى الجعرانة ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلاً فأحرم من المسجد الأقصى الذى تحت الوادى بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله إذا كان بالجعرانة (أي كان الرسول يصلي فيه إذا نزل بالجعرانة )، وأما المسجد الأدنى فقد بناه رجل من قريش اسمه عبدالله بن خالد الخزاعى».
هذا نص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي . وكما نري لم يذكر فيه الرجل من قريب أو بعيد قصة الإسراء ، فمن أين أتي الدكتور يوسف زيدان بهذا الاستدلال ؟ وماذا وجد في هذا النص كي يفترض أن الرسول قد أسري به إلي الجعرانة بدلاً من بيت المقدس؟.
وأعود إلي لب الحوار و الفرضية التي يفترضها الكاتب عن تاريخ المسجد الأقصي وقدسيته والتي يدعي أنهما لم يكن لهما وجود قبل عام 73 هجرياً. وهنا أقف متحيراً مرة أخري آمام استنتاج الكاتب العالم في التاريخ. فلو كان المقصود بالمسجد الأقصي تلك الجدران التي أقامها عبد الملك بن مروان والقبة الصفراء التي تزين مسجد الصخرة لاعتبرنا أن فرضيته صحيحة . ولكنه يعلم جيداً أن قدسية المسجد مرتبطة بقدسية المكان وبقعة الأرض التي بني عليها وليس لجدران بن مروان شأن في ذلك. ولا أدل علي ذلك من القياس علي الكعبة المشرفة والمسجد الحرام. فجدران الكعبة المشرفة قد هدمت وبنيت أكثر من مرة علي مدار تاريخها و المسجد الحرام تتغير معالمه عاماً بعد عام ، ولكن تبقي قدسيتهما مرتبطة بقدسية الأرض التي تحمل البناء. والحق آن ما ردده الكاتب بخصوص استغلال بني أمية لقدسية المسجد كي يصرف الناس عن الحج الي أرض الحجاز هو اتهام روجه المؤرخون العباسيون ضد بني أمية. وهو كلام يؤخذ منه ويرد. فقد ذكر المؤرخ عارف باشا العارف المولود في القدس عام 1892 في كتابه "تاريخ القدس " : أن أول من ردد هذا الاتهام هو المؤرخ العباسي أبو العباس أحمد بن اسحق المعروف باليعقوبي والمتوفي عام 874 م وردده من بعده مؤرخون آخرون " . و معروف العداء التاريخي بين العباسيين وبني أمية. ولو افترضنا جدلاً بأن بني أمية قد روجوا لفكرة قدسية المكان لتدعيم ملكهم ضد خصومهم ، فإنما يعد هذا دليلاً علي أن للمكان قيمة روحانية و دينية مستقرة عند الرعية من قبل بني أمية ، وإلا لما استطاع بنو أمية أن يحققوا مأربهم هذا ، وأن ينتصروا علي خصومهم بتأجيج هذه المشاعر إن لم تكن موجودة سلفاً.
وقبل أن أتحدث عن تاريخ المسجد الذي بناه عبد الملك بن مروان و ما سبقه من مقدسات بنيت علي نفس البقعة من الأرض قبل أن يحل محلها البناء الحالي ، سوف أقوم بسرد جزء يسير من تاريخ مدينة القدس منذ نشأتها وحتي الفتح الإسلامي لها . و لهذا السرد أهمية في فهم بعض ما جاء علي لسان الدكتو يوسف زيدان بخصوص أسماء المدينة التي تغيرت علي مر العصور . وهو الأمر الذي اتخذه الكاتب مدخلاً كي يؤكد نظرية "القدسية الإسلامية المزعومة للمدينة من أجل أهداف سياسية " وليت الكاتب تطرق إلي المزاعم اليهودية في القدس بنفس القدر ولكنه خصص كل وقته كي ينفي وجود مقدسات إسلامية فيها. ناسياً أن الأمر لا يتعلق ببناء حجري فحسب وإنما بعقيدة يؤمن بها المسلمون منذ صدر الإسلام وهي أن القدس كانت أولي القبلتين و أن االرسول قد أسري به إلي بيت المقدس وليس إلي الطائف.
وحيث أن الدكتور يوسف زيدان قد طالبنا بأن نحادثه بأسانيد تاريخية وليست دينيه . فسأبدأ بهذا السرد السريع لتاريخ القدس.
يعود تاريخ القدس إلي عام 3000 قبل الميلاد . وأول أسم عرفت به المدينة هو "أور سالم " أو "مدينة سالم " وسالم هو إله الكنعانيين حامي المدينة والذي يعني اسمه بالعربية "السلام" ولهذا عرفت المدينة في الأدبيات القديمة والوثائق المصرية القديمة باسم " مدينة السلام " وهذا ما أثبتته رسائل تل العمارنه . ومن هذا الاسم اشتق الاسم العبري " أور شاليم " مع تغيير طفيف في المعنى عند ترجمته إلي العبرية حيث تعني كلمة أور في العبرية: مكان مخصص لعبادة الرب وخدمته أما كلمة "شاليم" فتعني أيضاً "سلام " ولهذا فإن الترجمة العبرية لاسم المدينة "هو مدينة الرب السلام " والذي لا يختلف كثيرا عن المعني الكنعاني الأصلي . أما الاسم العبري بيت ها-مقداش أو بيت المقدس الذي تحدث عنه الدكتور يوسف زيدان فقد اشتق من لفظ آرامي يترجم في العبرية إلي كلمة “الكنيس" أو بيت الاجتماع - ومنه كلمة "الكينيست " المعروفة حاليا. و كلمة بيت الاجتماع هذه تشير إلي الهيكل المقدس الذي بناه نبي الله سليمان كما سنذكر لاحقاً (انظر Jerusalem, the Holy City ، Stephen J. Binz, 2005)
وللمدينة طابع خاص يتسم بالقدسية منذ نشأتها و قد يستشفه الانسان من الأسم الكنعاني القديم لها . فهلا يثير الدهشة أن تسمي مدينة باسم "مدينة السلام" منذ أكثر من خمسة آلاف عام ؟!
وتقول التوراة أن إبراهيم عليه السلام قد بني بيتا للرب في هذه المدينة وكذلك فعل يعقوب عليه السلام . ولما هاجر بنو إسرائيل إلي مصر في زمن يوسف عليه السلام وظلوا بها طوال حكم الرعاة (الهكسوس) و بدايات حكم الرعامسة لم يكن لهم بيتا يقيمون فيه شعائرهم . فلما خرج بهم موسي عليه السلام في الرحلة إلي الأرض المقدسة أنزل عليه الرب تشريعاً جديداً فأمره أن يقيم هيكلاً متنقلاً اسمه "خيمة الاجتماع " أو "خيمة الشهادة" به قدس الأقداس الذي يحوي تابوت العهد (وهو صندوق يحوي ألواح الشهادة وبعضاً من المن والسلوي " و كذلك المذبح وساحة لتلاوة الصلوات. وظلت خيمة الاجتماع تتنقل من مكان إلي مكان في جميع منازل التيه التي مر بها بنو إسرائيل في أرض سيناء ، إلي أن وصلوا إلي شرقي نهر الأردن في أرض موآب. وهناك توفي موسي عليه السلام بعد أن أوصي فتاه يشوع بن نون بأن يقيم بيت للرب فوق جبل أورشليم.
وتذكر المصادر التاريخية أن اسم المدينة قبل الفتح العبراني مباشرة كان "يبوس " ولهذا عرف سكان هذه المدينة من الكنعانيين باليبوسيين. وهو اسم نجده أيضاً في الوثائق والرسائل المصرية القديمة. وقد حاول " يشوع بن نون " دخول يبوس بعد أن عبر ببني إسرائيل نهر الأردن وبعد أن احتل " أريحا" و " الجلجال " و "شيلوح" ولكنه لم يستطع دخولها لشدة تحصين المدينة. وتكررت محاولات بني إسرائيل لاحتلال يبوس بعد يشوع بن نون لعقود ولكنها كانت دائما ما تنتهي بالفشل. إلي أن ُمسِح "داواد" عليه السلام ملكاً علي بني إسرائيل في عام 1049 ق.م. وكان يومئذ يقيم في مدينة حبرون (الخليل). فزحف بجيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل يقوده ابن أخته (يوآب)، وبعد مقاومة عنيفة من اليبوسيين سقطت المدينة في يد بني إسرائيل واتخذها داود عليه السلام عاصمة لملكه. وكانت المدينة قبل احتلالها ذات حضارة ومنازل متقنة البناء بها أسباب الرفاهية ، فاقتبس بنو إسرائيل منهم هذه الحضارة ، فسكنوا في بيوت كبيوت الكنعانيين و لبسوا ملابس كملابسهم. وحينما تولي "سليمان بن داود " عليه السلام الملك ، أزدهرت المدينة في عهده أكثر وأقام معاهدات مع جيرانه من الفينيقيين والفراعنة و توسعت المملكة في عهده وازدهرت و بني فيها القصور والمحاريب كما ذكر لنا القرآن الكريم. وأهم هذه المحاريب كان الهيكل المقدس الذي بدأ بنائه في عهد داود عليه السلام و اكتمل في عهد سليمان عليه السلام.
ولما مات " سليمان " عليه السلام عام 975 ق.م. تقسمت المملكة إلي مملكتين ، مملكة يهوذا في الجنوب و عاصمتها أورشليم ، ومملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها "شكيم ". وظل النزاع علي أشده بين المملكتين لعقود ، ضعفت خلالها قوة المملكتين ، كما ضعفت عقيدة بني إسرائيل وتسللت العبادات الوثنية الفينيقية إلي عبادتهم اليومية حتي أنهم أقاموا معبداً للآله “بعل “ في قلب أورشليم. وحذرهم النبي إيليا (إلياس ) من مغبة ذلك الأمر . وقد أشار القرآن الكريم إلي ذلك في قول الله تعالي : “ وإن إلياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون. أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين . الله ربكم ورب آبائكم الأولين " وقد أدي ذلك الضعف السياسي والعقائدي إلي تعرض المملكتين للغزو أكثر من مرة ، تارة علي يد شيشاق فرعون مصر،وتارة علي يد شلمنصر ملك آشور . إلي أن دمرت المملكة الشمالية تماما علي يد "سنحريب بن شلمنصر " في عام 713 ق.م. وتم تشريد أهلها تماما وتفريقهم في بقاع الأرض وسبي بعضهم الي آشور فيما عرف بالسبي الآشوري . و ظلت المملكة الجنوبية وعاصمتها أورشليم باقية قرابة القرن وربع من الزمان بعد سقوط المملكة الشمالية، وتحديداً حتي عام 586 ق.م. حينما قام الملك البابلي نبوخذ نصر بغزو المدينة ودك أسوارها و تدمير الهيكل تماما وقام بسبي بني إسرائيل إلي بابل وهذا السبي عرف بالسبي البابلي لبني إسرائيل. وفي هذه المرة فقد اليهود تابوت العهد والألواح نهائيا ولم يعثروا عليها مرة أخرى
وظل بنو إسرائيل تحت نيران السبي قرابة السبعين عاماً ، تغيرت خلالها خريطة العالم السياسية و برزت حينها مملكة الفرس التي أزاحت مملكة بابل علي يد ملكها "كورش" العظيم و الذي تزوج من سيدة يهودية اسمها "إستير" ، ثم سمح لليهود بالعودة إلي أورشليم وبناء الهيكل الثاني علي أنقاض الهيكل الأول . وبالفعل عاد اليهود إلي أورشليم مرة أخري وقاموا ببناء الهيكل الثاني و تم ذلك في عام 515 ق.م. وظلت المدينة تابعة لملوك الفرس قرابة قرنين من الزمان تنعم بالسلام مقابل أن تؤدي الخراج الذي عليها لملوك الفرس وتسهيل عبور الجيوش الفارسية إلي مصر وأفريقيا .ولكن هذا السلام قد تعكر صفوه في نهايات القرن الرابع قبل الميلاد حينما اشتدت الحروب والمعارك بين ملوك الفرس واليونان ، والتي انتهت بهزيمة الفرس و سقوط المدينة في يد الاسكندر الأكبر المقدوني في عام 332 ق.م.
و توجس بنو إسرائيل خيفة من الأسكندر الأكبر في بادئ الأمر ولكنه أظهر لهم تسامحاً دينياً لم يتوقعوه . فقد أعفاهم من الضرائب و سمح لهم بإقامة شعائرهم وسك النقود الخاصة بهم. فطوي اليهود صفحة الفرس و تعاونوا مع الحليف الجديد الذي اتجه شرقاً كي يستكمل فتوحاته في الهند ولكن القدر لم يمهله طويلاً ومات في طريق العودة وتقسمت مملكته علي قواده وكانت أورشليم من نصيب البطالمة . و للأسف لم يحدث وفاق بين اليهود والبطالمة بسبب تمرد اليهود عل بطليموس أكثر من مرة لشعورهم بضعفه مقارنة بسلفه الأسكندر الأكبر . وقام اليهود بثورة كبيرة في عام 320 ق.م وتعاونوا مع مع أعداء بطليموس من أجل الانفصال. فأرسل إليهم بطليموس جيشاً كبيراً دك حصون أورشليم وبطش بأهلها بطشاً شديداً وأسر ما يزيد عن مائة ألف يهودي حملهم معه أسرى إلي مصر.
واستغل اليهود فترة الاضطراب التي حدثت بين الحكام في آوخر حكم البطالمة فعقدوا المؤامرات وأججوا نار الخلاف بين القوي المتصارعة حتي نجحت مجموعة عسكرية من اليهود تسمي بالمكابيين من الاستقلال بالحكم في عام 150 ق.م. فيما عرف بثورة المكابيين. ولكن سرعان ما دب الخلاف بين المكابيين أنفسهم و قامت بينهم حرب أهليه طاحنة استعان فيها قادة العسكر اليهود بخصوم الدولة اليهودية للانتصار علي منافسيهم. وعقد بعضهم اتفاقات مع دولة الرومان الطامحة في التوسع . وكنتيجة حتمية لهذا الصراع سقطت أورشليم تحت الاحتلال الروماني علي يد القائد بومبي عام 63 ق.م. وكان أول شئ فعله الرومان هو التخلص من حلفائهم من المكابيين و قام هيرودس بذبح آخر قادة المكابيين عام 37 ق.م.
وظلت علاقة اليهود بالرومان تتأرجح ما بين الهدوء والاضطراب ردحاً من الزمن فتارة يأخذهم الرومان بالرأفة وتارة بالبطش وإن كان الميل الي البطش أكثر نظراً لكره اليهود للرومان بعد أن قاموا بالفتك بالمكابيين. وكانت أشد الفترات توترا هي عام 138 م حينما تولي الامبراطور أدريانوس (Hadrian) عرش روما . والذي اعتزم أن يقضي علي الشعب اليهودي الذي كان لا يهدأ له بال دون أن يقوم بنوع من أنواع الشغب. فحظر علي اليهود الاختتان و قراءة التوراة و احترام يوم السبت كنوع من الاستفزاز . فقام اليهود بثورة دموية علي تلك الاحكام الجائرة عام 135 فأرسل إليهم أدريانوس جيشاً بقيادة يوليوس سيفيروس احتل المدينة وقهر الثوار و قتل مئات الألوف بحد السيف فضلاً عمن ماتوا بالحرق و الجوع والمرض. ورغبة منه في استئصال شأفة اليهود حظر عليهم دخول المدينة مرة أخري ثم أمر بتحطيم الهيكل الثاني وحرقه وردمه بالتراب والحجارة وأمر بمحو كل أثر لليهود في المدينة وقرر تغيير اسم المدينة من أورشليم إلي "إيلياء كابتولينا " حتي ينزع ذكراها من القلوب.
وهذا الدمار الثاني الذي ألحقه أدريانوس بالمدينة بعد الدمار الأول الذي قام به نبوخذ نصر ، يذكرنا بآيات سورة الإسراء التي تحدثت عن تلك الواقعتين في قول الله تعالي :
" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
وجدير بالذكر أن المسيحيين لم يسلموا أيضا من اضطهاد الامبراطور الوثني أدريانوس، فقد دمراً لهم كنيسة أورشليم وأمر بردم القبر المقدس بالتراب والحجارة وبني فوق القبر هيكلين وثنيين وتمثالين للمشتري والزهرة. ولكنه علي أية حال لم يقم بتهجير المسيحيين مثلما فعل مع اليهود.
وقد ظل اسم المدينة " أيلياء" هو الاسم المتداول منذ أن أطلقه أدريانوس عام 135 وحتي دخول عمر بن الخطاب إليها في عام 636 م (أي لمدة خمسمائة عام كاملة)
وحينما اعتنق البلاط الروماني الديانة المسيحية وتولي الامبراطور قسطنطين عرش الأباطرة عام 313 م أزدهر الوجود المسيحي في القدس وبلغ الأمر أشده حينما زارت هيلانة والدة قسطنطين مدينة إيلياء وأزالت عن قبر المسيح الحجارة و البناء الذي أقامه أدريانوس. ثم قامت ببناء كنيسة القيامة محل الكنيسة القديمة. ولكن الأمر لم يتحسن بالنسبة لليهود فقد خير قسطنطين اليهود بين العودة إلي المدينة مع اعتناق المسيحية أو البقاء خارجها إلي الأبد.
ولحسن حظ اليهود لم يدم الأمر طويلاً ففي عام 360 م تولي الحكم الامبراطور "جوليان فلافيوس " والمعروف ب"جوليان المرتد " (Julian the Apostate) والذي تتهمه الكتابات المسيحية بالردة ومحاولة إحياء الوثنية بينما يصفه اليهود بالحاكم العادل حيث ألغي جوليان جميع الأحكام التي صدرت ضد اليهود وسمح لهم بالعودة إلي المدينة مرة أخري. وجرت محاولة لبناء الهيكل لثالث مرة ولكنها باءت بالفشل لأسباب غير محددة أحالها المسيحيون إلي تدابير السماء وأحالها اليهود إلي مؤامرة مسيحية. ومهما يكن السبب وراء فشل تلك المحاولة ، فإن تلك المحاولة كانت هي المحاولة الأخيرة لبناء الهيكل منذ عام 360 م وحتى الآن. وعلي هذا فإن موضع الهيكل ظل خراباً منذ هدمه أدريانوس عام 135 م وحتي الفتح الإسلامي للمدينة.
و بعد أن انقسمت الكنيسة إلي كنيسة شرقية وأخري غربية لاختلافات مذهبية اتبعت إيلياء حينئذ الكنيسة الغربية و في عام 530 م قرر المجلس الكنسي أن يجعل إيلياء مقراً للبطريركية وإنشئت كنائس متعددة في المدينة ، ولكن هذه الكنائس لم تفلح في رأب الخلافات المذهبية التي نخرت في جسد الدولة العجوز. ومع بدايات ظهور الدعوة الإسلامية وبعثة النبي محمد صلي الله عليه وسلم كانت دولة الروم في أشد درجات الضعف بسبب تلك الخلافات و اشتدت النزاعات السياسية مما منح الفرس فرصة الهجوم علي إيلياء بقيادة كسري ملك الفرس عام 614 م وكان ذلك في عهد هرقل ملك الروم. كان دخول الفرس كاسحاً مدمراً .فقد ذُبِح فيه تسعين ألف مسيحي بنصل السيف و هدمت فيه كنيسة القيامة وجميع الكنائس الأخري . واستولي الفرس علي الصليب الخشبي المقدس الذي صلب عليه المسيح (في اعتقاد النصاري) وحملوه إلي بلادهم ومعه البطريرك زخريا أسيراً. وجدير بالذكر أن المؤرخين المسيحيين يشيرون في كتبهم بأصابع الاتهام إلي يهود إيلياء و ينصون صراحة علي أن اليهود قد شاركوا في أعمال التخريب والتدمير التي وقعت بالمدينة وتعاونوا مع الفرس في قتل النصاري انتقاما منهم.
وعموما فقد أصيب العالم المسيحي بالحزن بسبب الدمار الذي وقع في المدينة وأيضاً لفقدان الصليب المقدس. وانتقلت أصداء الهزيمة إلي جزيرة العرب . ونزل الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم يخبره بأن الروم قد غلبت ولكنها ستعاود الانتصار مرة أخري في نبوءة أشبه بالمعجزة نقرأها في قول الله تعالي : "غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ"
وبالفعل استجمع هرقل قواه وانتصر علي الفرس عام 627 م وأعاد الصليب المقدس إلي موضعه بعد أن أعاد بناء كنيسة القيامة . و انتقم من اليهود شر انتقام . ولكن الضعف كان قد حل بمملكته فلم يستطع أن يصد الفتح الإسلامي الذي أسقط مدنه الواحدة تلو الأخري حتي فتحت إيلياء عام 636 ميلادياً علي يد القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .

وقبل أن أتحدث عن الفتح الإسلامي لإيلياء أو بيت المقدس أود منك عزيزي القارئ أن تتأمل معي هذه المفارقات التي تستطيع أن تقرأها بين السطور السابقة:
أولاً : أن المدينة التي كانت تسمي بمدينة السلام أو "أور-سالم " قبل الفتح اليهودي لم تنعم بالسلام قط علي مدار التاريخ اليهودي باستثناء فترة وجيزة هي فترة حكم الملك سليمان عليه السلام ، والتي لا تزيد عن 44 عاماً طبقاً لنصوص التوراة. وفيما عدا تلك الفترة فإن أديم هذه الأرض قد صنع من دماء و أجساد ملايين البشر و الأبرياء.
ثانياً : أن المدينة المقدسة التي وصفها القرآن الكريم بالأرض المقدسة وأمر اليهود بأن يقيموا فيها بيتاً للرب قد انتهكت قدسيتها علي مدار التاريخ اليهودي. تارة علي يد اليهود أنفسهم حينما عبدوا الاله "بعل " داخل الأرض المقدسة ، وحينما انقسموا علي أنفسهم وتعاونوا مع أعدائهم ، وتارة أخري علي أيدي الغزاة من الآشوريين و البابليين و البطالمة والرومان و الفرس.
ثالثاً- لم تسلم أورشليم المسيحية من كيد يهود المدينة . كما لم تشفع عقيدة المسيحيين التي تعتبر العهد القديم جزء أساسي من الكتاب المقدس في السماح لليهود بإعادة بناء بيت الرب. وظل مكان البيت خراباً مطموراً بالحجارة و مدنساً بروث الخيل طيلة الحكم المسيحي للمدينة المقدسة.
4- لم تسلم المقدسات المسيحية من الإعتداء والتدمير ولم يسلم المسيحيون أنفسهم من القتل والتعذيب علي أيدي الرومان في بادئ الأمر ، ثم الفرس لاحقاً. ولم يكن اليهود ببعيد عن إلحاق الأذي بالمسيحيين في جميع الأحوال حتي أن أذاهم قد طال المسيح عيسي بن مريم عليه السلام نفسه.

وجدير بمن يتأمل هذه النقاط أن يشعر بحتمية ظهور طرف آخر بعيد عن أطراف الصراع يمكنه أن يعيد الأمور إلي نصابها . فيعيد السلام إلي أرض السلام ويعيد القدسية إلي الأماكن المقدسة ولا تستباح في عهده كنيسة ولا معبداً . وكان هذا الطرف هم الفاتحون المسلمون.

وأعود إلي الفتح الإسلامي لبيت المقدس و إلي الدكتور يوسف زيدان ، الذي تلا علينا نص العهدة العمرية ، ليدلل فقط علي أن اسم المدينة في زمن الفتح الإسلامي كان " إيلياء " ، رغم أنها قضية معروفة لم ينازعه فيها أحد. وليت الدكتور يوسف زيدان أكمل الرواية التي قرأها والتي تتحدث عن دخول عمر بن الخطاب إلي إيلياء . وهي رواية ذكرها الواقدي في كتاب فتوح الشام و الطبري في تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية ولم يخل منها كتاب من الكتب الحديثة التي تتحدث عن تاريخ القدس. و الرواية المكتملة تنقض كل ما جاء به الدكتور يوسف زيدان علي مدار ساعتين وتنفي أن المسلمين الآوائل - ومنهم عمر بن الخطاب - كانوا يعتقدون بأن النبي صلي الله عليه وسلم قد أسري به إلي الجعرانة ، كما تنفي أن المسجد الأقصي الموجود في بيت المقدس كان شيئا مجهولا بالنسبة للمسلمين الأوائل .
و مختصر الرواية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن دخل بيت المقدس كان أول ما قام به أن أعطي عهد الأمان لأهل إيلياء . في وثيقة عرفت بالعهدة العمرية وهذا نصها:
" بسم الله الرحمن الرحيم 

هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم. ولكنائسهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم. ولا ينتقص منها ولا من حيزها. ولا من صلبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. 

وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله و رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية"
شهد على الوثيقة: خالد بن الوليد ،عمرو بن العاص. كتب وحضر سنة 15ه عبد الرحمن بن عوف، معاوية بن أبي سفيان، عمر بن الخطاب.

وبعد أن أعطاهم عمر العهد كان أول عمل قام به أن زار كنيسة القيامه فلما حان وقت صلاة العصر أشار عليه البطريرك صفرونيوس “Sophronius “ أن يصلي في الكنيسه فأبي عمر بن الخطاب خشية أن يتخذها المسلمون من بعده مسجدا . فخرج عمر وصلي العصر هو و أصحابه في أرض فضاء تبعد حوالي خمسمائة متر عن الكنيسة . فجاء المسلمون من بعده وبنوا في هذا المكان مسجداً تم تجديده وتوسعته حتي وصل إلي شكله الحالي في عهد الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي . ولا يزال المسجد حتي الآن موجوداً في الفناء الخلفي لكنيسة القيامة في حارة النصاري و اسمه مسجد عمر . ولا علاقة له بالمسجد الأقصي.
و اتفقت الروايات علي أن عمر رضي الله عنه سأل أثناء إقامته عن مكان المسجد الأقصي. واختلفت الروايات فيمن سأله عمر . فذكر بعضها اسم اليهودي المسلم "كعب الأحبار " و ذكر آخرون أنه سأل البطريرك صفرونيوس.المهم أن الناس قد أشاروا إلي الموقع الذي كان يقدسه اليهود. فذهب عمر إلي ذلك المكان فوجده في حالة خراب ودمار شديدين و تجمعت فيه الأحجار و الأقذار بفعل الرومان. فراح عمر يزيل التراب والقاذورات عن ارض المكان هو وأصحابه. وكشف عن صخرة في وسط المكان أعتقد أنها الصخرة التي عرج منها النبي إلي السماء فأقام حولها مسجد خشبياً بدائياً اتسع وقتها لألف مصلي ، وكان هدفه رضي الله عنه أن يعيد إلي المكان قدسيته وهيبته حتي لا يتجرأ عليه أهل إيلياء بموجب عهد الأمان الذي أعطاه لهم. وظل هذا البناء الخشبي قائماً حتي زمن معاوية بن أبي سفيان . وفي عام 41 هجرياً قام معاوية بن سفيان بتغيير هذا البناء الخشبي إلي بناء حجري وقام بتوسعته كي يستوعب ثلاثة آلاف مصلي. ولا يزال مسجد معاوية الذي أقامه علي آثار مسجد عمر قائما حتي الآن ضمن أسوار المسجد الأقصي ويسمي بالمسجد القبلي. ويذكر المؤرخ الشهير " المقدسي " أن أكبر التوسعات التي حدثت في المسجد حتي وصلت إلي شكلها الحالي كانتفي عهد عبد الملك بن مروان والذي بدأ في مشروع التوسعة عام 65 هجرياً أي في السنة الأولي من حكمة. وقد يكون االرجل المخضرم قد أراد أن يبدأ حكمه بمشروع عملاق يجتذب حوله قلوب الرعية لا سيما و أن حكمه كان مزعزعاً في الجنوب بثورة عبد الله بن الزبير وفي الشام بمحاولة انقلاب بن عمه عمرو بن سعيد الأشدق الذي كان يري نفسه أحق بالخلافة. ولكي يبدأ بن مروان مشروعه نذر له خراج مصر سبع سنين وعهد بإدارة العمل فيه الي أحد أعلام العصر في ذلك الوقت وهو رجاء بن حياة بن جود الكندي . وبدأ بقبة الصخرة المذهبة وبعدها بقبة السلسة حتي اكتمل البناء و صار أقرب إلي الشكل الحالي . وجدير بالذكر أن المسجد الأقصي تهدمت بعض أجزاؤه مرتين بفعل الزلازل. الأولي في بدايات حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وقام بتجديده مرة أخري والثانية في عهد الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله والذي قام أيضاً بتجديده. وهذا يوضح أن للمسجد قيمة كبيرة عند العباسيين و الفاطميين رغم اختلاف المذاهب والمطامح السياسية.

وبعد :
فإنه يتضح من تلك الدراسة الموجزة أن الفتح الإسلامي لبيت المقدس قد حقق ما لم يحققه التواجد اليهودي والمسيحي لتلك المدينة المقدسة عل مدار عشرات القرون منذ نشأتها عام 3000 ق.م. وحتي عام 636 م . فقد صد عنها بطش الفرس والرومان و أعطي الأمان لأهل إيلياء و أعاد الي المقدسات قدسيتها.
وأخيرا أسأل الله أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الكريم

د. أسامة الشاذلي
أستاذ بجامعة عين شمس

هوامش :
قد تثور هنا بعد الأسئلة في ذهن القارئ
1- كيف يسمي عمر بن الخطاب المكان الذي يقدسه اليهود بالمسجد ؟ والإجابة أن كلمة مسجد تعني مكان العبادة ولا تعني بالضرورة مكان عبادة المسلمين. ولقد سمي القرآن الكريم مكان عبادة اليهود الذي سيتعرض للتدمير بالمسجد في سورة الإسراء. قال تعالي : " وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

2- هل يعني هذا أن المسلمين قد بنوا المسجد الأقصي فوق الهيكل ؟ والإجابة أن المسلمين قد بنوا المسجد الأقصي فوق أرض باركها الله ولكنها ظلت خرابة لمدة خمسمائة عام منذ عام 135 م وحتي عام 636 م. فأعاد إليها المسلمون قدسيتها و مكانتها التي نصت عليها الديانات السماوية.

3- هل وردت أية أحاديث توضح كيف بني المسجد ؟ والإجابه نعم فقد أورد البخاري العديد من الأحاديث عن المسجد الأقصي ولكنني آثرت أن يكون النقاش تاريخياً كما طلب الدكتور يوسف زيدان.

المراجع:
1- القرآن الكريم
2- الواقدي : كتاب المغازي – تحقيق مارسدن جونس – مكتبة الأسكندرية – الطبعة الثالثة
3- تاريخ القدس عارف باشا العارف الناشر: دار المعارف - القاهرة الطبعة الثانية 1994
5- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية : عبد الوهاب المسيري – المجلد الثاني . طبعة دار الشروق
6- موسوعة قصص الأنبياء والتاريخ – الجزء الخامس - أنبياء بني إسرائيل – د. رشدي البدراوي
7- أحسن التقاسيم في أخبار الأقاليم للمقدسي.
8- تاريخ الأمم والملوك المعروف بتاريخ الطبري
9- البداية والنهاية لابن كثير
مراجع أجنبية :
1- Jerusalem, the Holy City ، Stephen J. Binz, 2005
2- E. Mary Smallwood The Jews under Roman rule: from Pompey to Diocletian : a study in political relations, p. 460, at Google Books . BRILL, 1981, p. 460
3- Joechim Jeremias: Jeurasalem at the time of Jesus. First print 1969.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.