''الأزهر والقاهرة صنوان لا يفترقان لأنهما خُلقا رمز تاريخ مصر وعنوانا لهذا التاريخ، فالقاهرة بأزهرها قلعة الخلود وقمة المجد وعظمة لا تدانيها عظمة في الوجود؛ لأن الأزهر يعتبر بحق جامعة الشرق الكبرى وحصنا للثقافة به طوال عشرة قرون عاصرها، كان أمينا فيها على التراث الإسلامي بشتى صورة ومجددًا له بين جوانحه‘‘ [الأزهر في مائة عام، أحمد فرج]. كان طلاب العلم يفدون إلى الأزهر من كل حدب وصوب؛ ليشهدوا فيه منافع لهم؛ إذ كانت أروقته تعجّ بالحراك الفكري بلا قيود، والتناغم المعرفي بلا شطط. وكان علماء مصر من الأزهريين قبل دخولها تحت لواء العثمانيين تهتم بمثل العلوم الحديثة. فهذا الشيخ أحمد الدمنهوري الأزهري الذي جاء في سنده أنه درس "علوم الحساب والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلاماتها والهندسة والهيئة وعلم الأرثماطيقي وعلم المزاول وعلم الأعمال الرصدية وعلم المواليد الثلاثة: الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه وعلاج البواسير وعلم التشريح وعلاج لسع العقرب وتاريخ العرب والعجم". وقد تغير الحال بعد ذلك فقد أشاع الولاة العثمانيون حرمة تدريس هذه العلوم، وأنّ تدريسها كفر، والمهتم بها زنديق، حتى زهدها العلماء وأعرضوا عنها. حتى جاءت باكورة عصر النهضة، وتصارع طرفي الإصلاح والجمود، فبدأ الشيخ حسن العطار يقول في مجمل أحاديثه "إنه آسف لإهمال الأزهر علوم الحكمة واللغة". وكان الأستاذ الإمام محمد عبدة، أحد أكبر رواد النهضة والإصلاح داخل المؤسسة الأزهرية على مر العصور، يوصي تلاميذه -الذين أصبح منهم بعد ذلك اثنين من شيوخ الأزهر، وهما الشيخان الأحمدي الظواهري ومصطفى عبد الرازق- بأن يفتحوا عقولهم لتذوق البيان، والتلذذ بدلالات المعاني. كان يصيح في نصائحه لهم قائلًا "اقرأوا الأدب وتعلموا إنشاء البيان على نسق من الجمال والتذوق…فإن الإمعان في شروح التلخيص وحواشيه وتقريراته، لا تصنع ذوقا سليما". والآن آل الأمر لا تلخيص تجد، ولا بيان تقصد، حلّ الجهل محلّ العلم، وأصبح التصارع على الحصول على الشهادة، كالتصارع للفوز بالجنة.. ضعف المادة العلمية التي تُقدم للطالب، بالإضافة إلى ضعف المُعلم، مع عدم رؤية وتخبط شديد كل هذا يؤدي إلى أن يخرج الطالب مُحملا بجهل على جهله. ظلّت قوانين الإصلاح تصدر نتيجة الصراع الذي كان يدور في الأزهر بين الإصلاحيين والمحافظين. الإشكالية الكبرى التي وقع فيها العديد ممن أُوكل إليهم شأن التطوير والإصلاح داخل المؤسسة الأزهرية، أنهم لجأوا إلى التطوير بمعناه اللوجستي الذي يُعني بالتطوير الإداري فقط دون غيره، وليس هذا مرادًا، ونفعه بسيط. فشهد الأزهر عدّة تطويرات وإصلاحات، وأصدر عدّة قوانين في هذا الغرض إلا أن أحدًا لم يهتم بالإصلاح على الحقيقة بإدخال إصلاحات منهجية علمية، فصدر قانون عام (1895م) إبان مشيخة الشيخ حسونة النواوي بعد صراع بين طرفي النزاع، وانبثق عنه مجلس إدارة الأزهر الذي ضمّ مجموعة من روّاد النهضة على رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده، وتلا هذا القانون قوانين أعوام [1899 1908 1911 1923 1930 1936] وآخر قوانين الإصلاح ما صدر في عهد الشيخ محمود شلتوت عام (1961م)، والمستمر العمل به إلى اليوم، وقسم الأزهر إلى عدّة هيئات وإدارات هي: المجلس الأعلى للأزهر. مجمع البحوث الإسلامية. إدارة الثقافة والبعوث الإسلامية. جامعة الأزهر. المعاهد الأزهرية. إلا أنّ عجلة التطوير والإصلاح الحقيقي ظلت متوقفة لا تدور، حتى زهد الناس فيما لدى الأزهريين، ولعب الاختراق الوهابي لُعبته إثر الحالة التي تلت مصر عقب نكسة 1967م وانفتاح التوجه السعودي تجاه دول المنطقة، حتى عبّر الملك فيصل للرئيس جمال عبد الناصر قائلا: "لو شئت أن تنقل الأزهر من مصر إلى بلادنا لنقلناه حجرًا حجرًا.. ثمّ تلا هذه الفترة رجّة كبيرة داخل المؤسسة الأزهرية في شِياخة الشيخ عبد الحليم محمود، الذي دعا إلى عدم تدريس علوم الحكمة والفلسفة والمنطق بالأزهر، فبعد أن كانت تُدرّس بصورة موسّعة، انقلب الحال إلى تضييقها، بل وحذفها تماما وعدم الاعتراف بها ببعض الكليات، ككلية الشريعة مثلا، بل وفتح الباب للحاصلين على الثانوية العامة ممن لا يحق لهم الدخول إلى الجامعة إلى الالتحاق بجامعة الأزهر، بالإضافة إلى التوسع ببناء المعاهد في القرى والنجوع، كلّ هذا أدى إلى خريجين ليسوا بالكفاءة المطلوبة. وما يعنينا الآن مع تصاعد أصوات النداءات العامة بالتطوير والإصلاح أو ما يُطلق عليه "تجديد الخطاب الديني" مع التحفظ الشديد على هذا المصطلح؛ إذ آلياته مجهولة، فما هي الخطوات التي يجب اتخاذها!؟ وما المنهج الذي ينطلق منه؟! في أحد المؤتمرات العلمية التي عنت بمثل هذه القضية، صاح الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الحفناوي -أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر- بأعلى صوته موجهًا كلامه لوكيل الأزهر ومستشاري المشيخة الأزهرية قائلًا: "يا سادة، لا تجديد في الأزهر، مادامت كتب محمد عبده وشلتوت وغيرهما من روّاد التجديد والإصلاح مركونة على الرفّ غيرَ معمولٍ بما فيها".