منذ أكثر من عقد بدأ الحديث عن النووي الإيراني، الملف الذي أثار رعب وفزع الكثير من الدول العربية والإقليمية وحتى الدولية، وأخذ سنوات طويلة من المفاوضات، وشهد العديد من الانتكاسات والكبوات حتى خرج للعلن بعد عناء طويل، وسار في طريق التنفيذ بعد الوصول إلى الاتفاق التاريخي الذي أنهى نحو 12 عامًا من التوترات الدبلوماسية و21 شهرًا من المفاوضات الماراثونية. الدبلوماسية الإيرانية قال الرئيس الإيراني حسن روحاني: سنبدأ تنفيذ الاتفاق النووي في غضون غضون أسبوعين أو ثلاثة"، وتابع: أزيلت العقبة الرئيسة أمام تنفيذ الاتفاق النووي. قرار الرئيس الإيراني يأتي بعد يوم من إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية إغلاق التحقيق في البعد العسكري السابق لبرنامج طهران النووي، حيث وافق مجلس حكام الوكالة الذرية، التي تضم 35 دولة على قرار جاء فيه أن تحقيق الوكالة أجري وفق الجدول الزمني المتفق عليه، وهو ما ينهي النظر في هذا الموضوع. الخطوة السابقة تعتبر جولة جديدة كسبتها طهران في الاتفاق النووي ومحطة مهمة في اتجاه رفع العقوبات على إيران، وبداية لمرحلة جديدة من المنتظر أن تكون مليئة بالاستحقاقات السياسية والاقتصادية والانفتاح على العالم، فبعد مرور 12 عامًا غادر، أخيرًا ملف إيران مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما جعل الرئيس الإيراني حسن روحاني يعتبر القرار خطوة حاسمة تزيل عقبة رئيسة للبدء بتنفيذ الاتفاق النووي، حيث كان الرئيس الإيراني قد هدد مسبقًا بأنه إذا لم يتم إغلاق هذا الملف، فإن بلاده لن تطبق بنودًا رئيسة من الاتفاق النووي الذي أبرمته مع القوى الكبرى الست لخفض نشاطاتها النووية مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها. قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية يلغي القرارات ال12 السابقة التي أصدرها مجلس حكام الوكالة، التي حدّت بشكل كبير من برنامج إيران النووي، كما أنه سيدخل طهران في مرحلة تغيير مفاعل آراك النووي، ونقل المواد المخصبة إلى الخارج وتسلّم كعكة اليورانيوم الصفراء، التي قال رئيس لجنة متابعة تنفيذ خطة العمل المشترکة بين إيران والسداسية عباس عراقجي: بلادنا قد تسلمت في السابق كمية الكعكة الصفراء المقررة من روسيا، وأن هذه الكمية موجودة في إيران حاليًا. 12 عامًا جدل وادعاءات ادعاءات وأكاذيب وافتراءات، تصريحات نارية ومشادات كلامية، تهديدات وتعنت وتصادمات، هذه كانت الأجواء بين إيران وبعض القوى الدولية المرتعدة من البرنامج النووي وعلى رأسها أمريكا طوال 12 عامًا، فبعد اندلاع الثورة الإيرانية في عام 1979 وبالتحديد عام 1992، انتشرت مزاعم في وسائل الإعلام العالمية عن وجود أنشطة نووية إيرانية غير معلنة، وهنا دعت طهران مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارة كافة المنشآت النووية الإيرانية التي طلب المفتشون رؤيتها، ليخرج قائد فريق التفتيش بتصريح يفيد بأن الأنشطة النووية الإيرانية كافة سلمية، وفي عام 2002، بدأت النزاعات والقلق الدولي بعد أن انتشرت أنباء تفيد بوجود موقعين نوويين قيد الإنشاء في نطنز وآراك. ظلت المشادات الدولية والعقوبات تتزايد والاتهامات تتبادل بين إيران والقوى الغربية، حتى جاء الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى سدة الحكم في عام 2013، حيث اعتبرت القوى الدولية فوز روحاني تطورًا إيجابيًّا، ليبدأ فصل جديد في الملف النووي الإيراني باتجاه الحل الدبلوماسي. بدأت الأصوات الدولية تتعالى من جديد وتعرب عن رغبتها في استئناف المفاوضات مع إيران وبشكل مباشر بعد التوقف لفترة طويلة، وهو ما رحب به الرئيس الإيراني، وفي عام 2009 بدأت في جنيف بعض المفاوضات بين إيران ومجموعة «5+1» التي تضم الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدةوروسيا والصين وفرنسا وألمانيا. وفي عام 2012 استضافت إسطنبول إحدى جولات المفاوضات التي كانت متعثرة بشكل كبير في ذلك الوقت، وانطلاقًا من ذلك التعثر بدأت القوى الغربية في التلميح إلى تخفيض سقف المطالب من خلال القبول بتخصيب إيران لليورانيوم بنسبة 5%؛ لأن التصميم على عدم التخصيب نهائيًّا معناه استحالة الوصول لاتفاق، إلَّا أن إيران صممت ألَّا يقل التخصيب عن 20%. في عام 2014 انتقلت المفاوضات إلى فيينا، حيث بدأت سلسلة من الاجتماعات عالية المستوى التي انتهت بالاتفاق على وقف تجميد الولاياتالمتحدة لأموال إيرانية بقيمة 2,8 مليار دولار، مقابل استمرار إيران في تحويل اليورانيوم المخصب بنسبة 20% إلى وقود. وفي 14 يوليو الماضي توصلت إيران والقوى الدولية السداسية إلى اتفاق، وهنا خرج المسؤولون الأوروبيون والغربيون بتصريحات أشادت بالتوصل إلى اتفاق نهائي بخصوص برنامج إيران النووي، كما حظى الاتفاق بدعم دولي واعتراف من المنظمات والبرلمانات الدولية. عراقيل وتحديات طريق تنفيذ الاتفاق النووي لم يكن خاليًا من العراقيل والتحديات التي لا تزال بعض الدول تحاول زرعها حتى الآن في طريق استكمال مسيرة تنفيذ الاتفاق، إلَّا أن معظم هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع نتيجة تصميم بعض القوى الدولية والإقليمية على إنهاء هذا الملف الشائك، الذي أرق العديد من الدول خلال السنوات الماضية، واستهلك الكثير من الوقت والجهود الدبلوماسية. أولى محاولات العرقلة جاءت من الكونجرس الأمريكي الذي شهد مشادات كثيرة حاول خلالها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، استمالة الأعضاء الجمهوريين للتصويت لصالح الاتفاق، لكنه لم ينجح في إقناع أي جمهوري بمجلس الشيوخ بمبادرته الدبلوماسية لتمرير الاتفاق النووي الإيراني، مما دفعه إلى التهديد باستخدام الفيتو في حالة الوصول إلى طريق مسدود، لكن الأعضاء الديموقراطيون المؤيدون للاتفاق النووي استطاعوا إنقاذ الرئيس الأمريكي في اللحظات الأخيرة من هذا الموقف. لقي الكونجرس فشلين متتالين إثر محاولات أعضائه الجمهوريين عرقلة الاتفاق النووي والعودة إلى نقطة الصفر، ففي المرة الأول ارتفع عدد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي المؤيدين للاتفاق النووي مع إيران إلى 41 عضوًا مقابل 58 رافضين له، مما أتاح للديموقراطيين عرقلة التصويت، كون إتمامه يتطلب حضور ستين في المائة من أعضاء مجلس الشيوخ البالغ عددهم 100 عضو، الأمر الذي يمنع التصويت على الاتفاق في الكونجرس. وفي المرة الثانية أفشل الديمقراطيون محاولة جمهورية جديدة، حيث نظم زعيم الأغلبية الجمهورية في المجلس السيناتور ميتش ماكونيل الاقتراع الثاني، في محاولة منه لاستمالة اثنين على الأقل من الديمقراطيين للتصويت لمصلحة قرار بعدم الموافقة على تمرير الاتفاق النووي، لكن محاولاته باءت بالفشل فلم يحصل الجمهوريون على ال60 صوتًا اللازمة لإقرار مشروع قانون لمنع الاتفاق من المضي قدمًا في مجلس الشيوخ. في منتصف سبتمبر الماضي، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية زيارتها إلى إيران تطبيقًا لما جاء في الاتفاق النووي الموقع بين إيران والمجموعة السداسية؛ للوقوف على مدى تعاون إيران في تنفيذ المطلوب منها بحسب الاتفاقية، حيث زار الأمين العام للوكالة يوكيو آمانو الموقع العسكري الإيراني في بارتشين، الذي كان لا يسمح لممثلي الوكالة من قبل بزيارته، وفي أكتوبر الماضي خرجت الوكالة بتقريرها الذي أكد أن إيران تعاونت مع الوكالة لتفتيش أكثر من موقع لمنشأتها النووية، وأنها بدأت في تطبيق الاتفاق النووي. محاولات عرقلة نهوض إيران من كبوة العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها نتيجة برنامجها النووي لا تزال مستمرة حتى الآن، فمن بين 54 عضوًا جمهوريًّا بمجلس الشيوخ الأمريكي، وقع 36 عضوًا خلال الأيام القليلة الماضية على رسالة تحث الرئيس باراك أوباما على عدم رفع العقوبات عن إيران كما هو مقرر بموجب الاتفاق النووي، قائلين: التجربة التي أجرتها طهران على إطلاق صاروخ باليستي في الآوان الأخير تظهر تجاهلًا صارخًا لالتزاماتها الدولية، وجاء في الرسالة أن التجارب الصاروخية تعزز قدرة طهران على استهداف إسرائيل والقوات الأمريكية في المنطقة، وأضافت لهذا السبب فإن من الخطأ التعامل مع برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني بمعزل عن برنامج إيران النووي. الرد الإيراني جاء سريعًا على المحاولات الأمريكية المعادية لطهران، حيث قال وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان: بلادنا لن تقبل أي قيود على برنامجها الصاروخي، وتابع: "اخترنا الصاروخ عماد في 11 أكتوبر، وهو صاروخ تقليديكي نظهر للعالم من خلاله أن الجمهورية الإيرانية ستتصرف بما يخدم مصالحها الوطنية فقط، وأنه لا توجد دولة أو قوة يمكنها فرض إرادتها علينا، ووصف وزير الدفاع الإيراني الصاروخ عماد بأنه تقليدي، وأكد أن الجيش لن يقبل أي قيود على برنامجه الصاروخي، وأضاف: منذ توقيع الاتفاق النووي لم نوقف اختبارات وإنتاج وأبحاث الصواريخ ولو ليوم أو ساعة أو ثانية. ماذا بعد حل أزمة النووي؟ الاتفاق النووي الإيراني جعل الطريق أمام عودة طهران للسوق العالمية سالكًا، وفتح بابًا جديدًا لعودة الاستثمارات، وحرك المياة الراكدة في الكثير من القضايا والأزمات السياسية الإقليمية والدولية، وأصبحت إيران قبلة للزيارات الدولية والإقليمية التي سعت فيها الكثير من الدول للظفر بأكبر حصة من الاستثمارات في مختلف القطاعات. تسابقت الشركات الأوروبية للاستثمار في السوق الإيرانية، حيث سعت للحصول على صفقات وتبادلات تجارية بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، وكانت بريطانيا من أوائل الدول الساعية إلى هذا الهدف، ففي أواخر أغسطس الماضي وصل وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند إلى طهران، في محاولة لضخ دماء جديدة في وريد العلاقات الإيرانية البريطانية بعد قطيعة دامت 12 عامًا، وخلال الزيارة أعلن هاموند إعادة فتح سفارتي البلدين وهو ما شكل مرحلة أساسية في تحسن العلاقات الثنائية بعد إغلاق دام أربع سنوات. سبقت ألمانيا الدول الأوروبية كافة في زيارة إيران، حيث وصل وزير الاقتصاد الألماني زيغمار غابريل إلى طهران في زيارة استمرت 3 أيام على رأس وفد مؤلف من 60 ممثلًا عن كبريات الشركات الألمانية، أما إيطاليا فقد توجه وفدًا تجاريًّا اقتصاديًّا إيطاليًّا إلى إيران للبحث مع طهران بشأن تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين. بدأت الجولات الإقليمية والدولية للمسؤولين الإيرانيين في الانتعاش من جديد، حيث استهلها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بزيارة الكويت وقطر والعراق في 25 يوليو الماضي، وفي 11 أغسطس توجه ظريف، لزيارة لبنان وسوريا وباكستان، فيما جاءت الجولة الثالثة ليزور خلالها ظريف بعضًا من الدول الإفريقية وهي تونس والجزائر. من ضمن الثمار الكثيرة التي جنتها إيران بعد الاتفاق النووي، كان تطوير علاقاتها مع الحليفة الروسية، فمنذ اليوم الأول للاتفاق بدأت الاستراتيجية الروسية تجاه إيران تأخذ منحنى جديدًا، وبدأ التقارب يظهر جليًّا على الجانبين العسكري والسياسي، حيث تبادل مسؤولو الطرفين الزيارات التي أخفت في طياتها صفقات أسلحة وتقارب سياسي وتبادلات اقتصادية، وظهر التعاون العسكري الروسي الإيراني بالأخص في عودة الحديث عن صفقة منظومة صواريخ «أس300» التي سلمتها روسيا مؤخرًا إلى إيران، بعد أن كانت مُجمدة منذ عام 2010 بموجب الحظر الدولي على تصدير الأسلحة إلى طهران.