هناك من من يحيا على صفحة الذاكرة كالضوء الدائم ، لا يغيب عنها ، رغم توالى الأيام والفصول والهموم .. يحضر إلى الذاكرة بكامل هيئته وملامحه ، يحضر ورائحته معه ، يحضر ، وعيناه تسرد عوالمه وحكاياته ، ويظل يحكى بعينيه وبقلبه ، ويتنقل بين محبيه كالنسيم الرهيف ، يدخل ، ولا يعرف الخروج . يأتي خفيفاً مثل ومضة عابرة ، ويُغادر خفيفاً مثل حلم مفتوح ومتجدد .. ربما تراه يجلس بجانبك في رحلة بالقطار ، أو يجاورك في مقهى ، وبين عيونكم تمتد خيوط الكلام ، أو التقيت به يوماً ، وسالت بينكم الأسرار ، مثل قطرات مطر متفرقة على الأرض .. إبراهيم أصلان من هؤلاء الأنبياء ، فهو الحاضر الأبدي ، والغائب اللامع .. التقيت به ، مثلما التقى به غيري من ألاف المحبين العابرين . ورأيته من بعيد ، يجلس على مقهاه ، وتابعته بعيناى ، كأسطورة نُسجت تفاصيلها في روحي ، وتهيبت الاقتراب من وهجها الآثر والحميم .. التقيت به على صفحات أعماله القليلة ، وقرأته كمريد ، يقرأ لشيخه البعيد ، يقتص أثره ، ويسير خلفه إلى غواية الفن .. ومنذ أن أدركتنى مسارات الدهشة ، وأنا أضع صورته على خزانة كتبي ، كحارس عتيد يقف على أسرار صناعة غوايته .. شخصياته لم تكن أسماء تتحرك في عالم من السرد ، بل كانت تسير فينا ، ونسير فيها ، ونتجاذب أطراف الحنين الانسانى اليها ، هى تضىء بقراءتنا لها ، ونحن نغيب فى ملامحها ، وكأنها ملامحنا التى لم نعرفها من قبل .. و برغم فقرهم وخشونة أيامهم ، الا أنهم كانوا مثل كاتبهم ، يسيرون فى الحياة ، برهافة الساخرين منها ومن عبثيتها ، يسيرون على حبل الحياة ، بمودة عابر جميل .. لم يعشق المكان أحد ، مثلما عشقه ذلك السارد النبيل ، فسرنا على ضوء عينيه الواهنة الشفيفة البليغة الى امبابة ، والكيت كات، وفضل الله عثمان ، وصعدت عوالمه الى سدرة وعينا بكل تفاصيلها ومنمنماتها ، وخفاياها وأسرارها .. كنا نتابع ما يُحكى عنه من أصدقائه ومريديه والجالسين اليه ، حتى نتيقن بأن ذلك الكائن المفارق ، ما زال يسير وحده فى مساءات القاهرة ، كأجمل كائناتها الليلية ، وما زال يتحرك بسيارته – الفولكس فاجن – التى تشبهه ، وتشبه عوالمه ، وتشبه شعره المهوش وشاربه الكث ، وجسده القابع على حزنه ، مثل مالك الحزين .. حينما شاهدت فيلم – الكيت كات – ، كنت من القليلين ، الذين انحازوا للفيلم ، دوناً عن الرواية ، برغم ولعى بها وبكاتبها ، لأن سيناريو دواد عبد السيد ، أمسك بقلب كل أعمال ابراهيم أصلان فى دفقة ابداعية واحدة ، وأعاد خلق الشيخ حسنى ، بعيداً عن مساحة تحركه الضيقة في الرواية . أعاد خلقه متنفساً بهواء أعمال أصلان التسعة ، ومعبقاً بكل تفاصيلها وخفاياها ، محباً للحياة حد السخرية منها ، قابضاً على مصادر الدهشة ، كصائغ محترف للحياة ، وحاو من حواتها الأصليين ، وصورة أخرى من ابراهيم أصلان ذاته ، الذى رأى ما لم نراه ، وكتب ما لم يمكن لأحد غيره أن يكتبه ..