الاتحادات عاجزة عن مساندتهم.. وثقافة المجتمع أكبر العقبات قدر لهم الله أن يحرمهم من إحدى حواسهم، هكذا يفقد المكفوفون القدرة على الانخراط في الحياة اليومية بشكل سليم لأن معظمهم في الأساس لا يستطيع تكوين التصور المتعلق بالأشياء من حيث اللون والشكل، فيعجزون عن تخيل الصورة الذهنية لمعظم الأشياء في المجتمع المحيط بهم، ويقضون أيامهم وشهورهم بل سنواتهم بحثًا عن حقوقهم. وإزاء ذلك اعتاد المجتمع أن يرى المكفوفين إما أبطالًا أفذاذًا أو ضعفاءً مساكين جديرين بالشفقة، وأحيانًا كثيرة يعاملونهم بازدراء أو لا مبالاة، فلا يزال الكثيرون حتى الآن يعتبرون كف البصر نوعًا من العقاب الإلهي الذي يحل بالأشخاص تأديبًا لأهاليهم، أو يصيب البالغين زجرًا لهم وربما لأسرهم أيضًا، مما يفسر إقدام الكثيرين في مجتمعاتنا على إنكار وجود أفراد مكفوفين في أسرهم، وعلى إخفاء مكفوفيهم عن أعين القريبين والبعيدين، فلا شك أن عوامل عدة تساعد على تعزيز هذه النظرة السلبية إلى إعاقة كف البصر. وإزاء هذا الرفض المجتمعي والتستر عليهم من قِبَل الأهل وكأنهم عار عليهم، نجد أنفسنا أمام تساؤل لا مفر منه: من يأخذ بيد المكفوفين ويسند ارتعاشتهم ويعينهم على طريق الحياة الشائك، من يتضامن معهم ويدعمهم وهم جزء منا ويحتاجون إلينا لنكون عونًا لهم في ظروفهم؟ إنها صرخة ألم من يبصرها، ومن يبصر آلام هذه الشريحة الكبيرة من ذوي الإعاقة؟ فعلى الرغم من وجود الكثير من الاتحادات والمنظمات، إلَّا أنها صرح شيد ولا حياة به، فلا يأتي لهم بأي من حقوقهم، فهناك حقوق كثيرة مهدرة من قِبَل الجهات المسؤولة تجاه هذه الشريحة من المكفوفين، والكثير منهم لا يستطيع المطالبة بهذا الحق تعففًا منهم. مكفوفو الجرس.. ما بين التهميش والإبداع حاولت "صوت المستضعفين" التواصل معهم، لإيصال صوتهم، إلَّا إنه لا صوت لهم من العفة، فكرامتهم وحياؤهم جعلهم لا يتحدثون كثيرًا عن مشكلاتهم. في البداية يروي محمد سالم، رئيس الاتحاد المصري لرياضيات المعاقين، وأحد أبطال لعبة كرة الجرس للمكفوفين، أن فرص المكفوفين داخل المجتمع المصري تكاد تكون معدومة، فمن المفترض أن الدستور ينص على تعزيز المساواة والشراكة بين مختلف فئات المجتمع، لكن ذلك لا يحدث، فهناك فجوة في التعامل مع المكفوفين وحتى في المعلومات عنهم. وتابع سالم: أما بخصوص الرياضيات فهي أيضًا تعاني من خلل داخل مصر، فعلى الرغم من أن لعبة كرة الجرس للمكفوفين من أهم الألعاب التي يمارسها المعاقون بصريًّا بجدارة فائقة، ويفوزون فيها بعدد من البطولات العالمية بشكل دوري، إلَّا أنها لم تجد أي دعم من وزارة الشباب، لافتًا إلى أن الدولة لا توفر حتى الملاعب الخاصة لممارسة هذه اللعبة، حيث تحتاج تلك اللعبة إلى ملاعب بمواصفات خاصة تناسب ظروف المكفوفين لتنمية مواهبهم، وتحقيق المزيد من البطولات والترويح عنهم بعض الشيء. وأوضح أنه لابد من إيجاد بيئة أفضل لتعليم المعاقين بصريًّا، والتنسيق بين مختلف المؤسسات التعليمية التي تعني بتعليم المعاقين بصريًّا، والتنسيق مع النوادي والجهات الرياضية كافة، بالإضافة إلى التوعية بأهمية العمل على إقامة برامج تدريبية تشمل المكفوفين وضعاف البصر. وأكد أن أهم ما في الأمر هو أن يتم النظر إلى إليهم كإنسان، دون اعتبار لشكله باستخدام الإرادة التي تنكسر أمامها كل المعوقات. الأولى مكفوفين.. غلاء كتب برايل يمنعها من الاستمرار وتقول السيدة منى محمد، والدة الطالبة مريم عبد الله نبيل، الحاصلة على المركز الأول في الشهادة الابتدائية داخل محافظة الجيزة: مريم ولدت مكفوفة وهو ما جعلنا نعاني على مدى سنوات، ففي بداية عمرها ذهبنا بها إلى مدرسة خاصة للمكفوفين، وهناك كانت معاملة المشرفين سيئة للغاية، ودائمًا ما كانوا يوجهون لها السباب، وفي أوقات يعاقبونها بسبب عدم قدرتها على التكييف مع زملائها في البداية. وتابعت والدة الطالبة مريم: قمنا بنقلها من تلك المدرسة إلى مدرسة أخرى لرعاية المكفوفين بمدينة نصر، وعلى الرغم من بعد المسافة، إلَّا إننا كنا مصرين على تعليمها، لكن في يوم ذهب والدها ليأخذها فوجدها تبكي بشدة وتعاني آلامًا في ذراعها، واكتشفنا وقتها أن زميلاتها اعتدين عليها بالضرب، فحررنا محضرًا ضد المدرسة لكن لم يأتِ بفائدة. وأكدت أن حصول مريم على الشهادة الابتدائية جعلنا نصرف الكثير من الأموال على المدارس، وعلى الكتب المكتوبة بطريقة برايل، فأسعارها عالية داخل مصر ولا توفرها وزارة التربية والتعليم، لافتة إلى أنها تريد لابنتها أن تستكمل تعليمها حتى الجامعة، لكن ظروف الدراسة للمكفوفين داخل مصر لا تسمح أبدًا بذلك. وأشارت والدة الطالبة الحاصلة على المركز الأول في الابتدائية، إلى أن هناك الكثير من المكفوفين الذين ضاعت حقوقهن على الرغم من قدراتهم الإبداعية، مطالبة بتوفير مراكز رعاية لهم أو حتى توافر الكتب ببرايل بطريقة سهلة؛ لأن الكتاب في الوقت الحالي يكلفهم فيما يزيد على 300 جنيه للفصل الدراسي الواحد. الإرادة خلقت منهم رؤساء تحرير ويضيف علي الفاتح، أحد المكفوفين والكاتب الصحفي ورئيس تحرير موقع معاق برس، أنه تخرج من كلية الإعلام واستطاع أن يعمل في كثير من المؤسسات الصحفية، على الرغم من كونه كفيفًا، لافتًا إلى أن الإرادة والتحدي هما السبيل لوصول الشخص لما يريد. وأكد الفاتح إن إهدار حقوق المعاقين في مصر جعلهم معرضين لمعاناة لا قِبَل لهم بها، حيث إن حقوقهم مهدورة في المجالات كافة؛ سواء على مستوى الوظائف الحكومية أو حتى في الجامعات، مشيرًا إلى أن المعاقين لهم حقوق مثل المصريين كافة، لكن لا أحد يدرك ذلك. ويستنكر الفاتح المجتمعات التي تنظر إلى الكفيف على أنه شيخ، وإلى المعاقين ذهنيًّا على كونهم يعانون خللًا في التفكير السليم، مشيرًا إلى أنه الخطأ الشديد أن يعزل المجتمع ذوي الإعاقة ويعتبرهم عاجزين. "القومي للإعاقة": المكفوفون لهم حقوق كالجميع.. والاعتمادات المالية العائق وعن المكفوفين وحقوقهم بالمساواة مع باقي المواطنين، تقول دكتور هبة هجرس، الأمين العام لشؤون المجلس القومي للإعاقة: المجلس يحاول رعاية حقوق المكفوفين كغيرهم من ذوي الإعاقة، لكن ذلك في ظل ما يكلفه القانون لهم، لافتة إلى أن هناك نسبة 5% من الوظائف، وزعم كثيرون أن المكفوفين محرومون منها، لكن بالتواصل مع مجلس الوزراء أكد أن المكفوفين لهم نسبة بها. وتابعت هجرس أن المعاقين في مصر بشكل عام يعانون من تهميش مجتمعي كبير، ليس بسبب الجهات الحكومية أو المؤسسات، لكن بسبب الثقافة العامة للمجتمع والمواطنين، لافتة إلى أن تأسيس المكفوف أو المعاق في بيئة مناسبة تستطيع أن تخلق منه شخصًا سويًّا ذا قدرات خاصة فائقة عن الشخص العادي، لكن في مصر يحدث العكس، فقط بسبب التعامل مع الأشخاص. وأكدت الأمين العام لشؤون المجلس القومي للإعاقة، أن المشكلات التي تواجه المجلس القومي للإعاقة لمساعدة المكفوفين هي الاعتمادات المالية وصعوبة إخراجها لهم؛ لأن المجلس جهة حكومية ويسير وفقًا للروتين الحكومي المعتاد. الأصحاء يحتاجون لتأهيل نفسي للتعامل مع المكفوفين ومن الناحية النفسية تعلق دكتور هبة العيسوي، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، قائلة: المجتمع هو الذي يجعل من بعض الفئات مهمشة، مما يؤدي إلى استبعاد المكفوفين من مسار الحياة الطبيعية منذ الصغر، وبالتالي تتولد لدى المعاق ميول انعزالية، وتكون شخصيته انطوائية، وهو ما يجعله فيما بعض غير قادر على التعامل مع المجتمع، لافتة إلى أن لابد من تغيير الثقافة المجتمعية السائدة في الوقت الحالي، من خلال تحديد الأدوار التي يمكن أن يسهم بها كل فئة من المعاقين والعمل عليها. وتابعت العيسوي أن نظرة الناس السلبية للمكفوفين تؤثر في النواحي النفسية المتمثلة في شعوره بالفشل والانسحابية والعدوانية واضطراب مفهوم الذات وعدم الاتزان الانفعالي، وقد تتشكل لديهم ردود أفعال عاطفية وانفعالية سلبية، فضلًا عن تسبب هذا في شعورهم المفرط بالعجز الزائد والإحساس بالضعف والقلق والخوف من المجهول وعدم الشعور بالأمن وعدم الاطمئنان إلى حالتهم، مما يؤدي إلى الشعور بالنقص والعصبية الزائدة وعدم تقدير الذات، وظهور أنواع من الاستجابات التعويضية المفرطة مثل الاستياء من النفس. وأوضحت أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، أنه بتغيير الثقافة المجتمعية ستجبر الجهات الحكومية على تغيير ثقافتها في التعامل معهم، وسيتم التعامل معهم على أنهم أشخاص عاديون لكن قدر الله أن يحرمهم من حاسة وعوضهم ببديل آخر متمثل في قوى إبداعية. من جانبه يقول دكتور محمد عمران، رئيس قسم علم النفس بكلية الآداب جامعة حلوان: المكفوفون يعانون داخل المجتمع المصري كثيرًا، وحل هذه الأزمة يتمثل في العمل على دمج وتقليل الفوارق الاجتماعية والنفسية بين المكفوفين والأشخاص العاديين، ومنحهم فرصة أفضل ومناخًا أكثر نموًّا لتحقيق ذاته، لافتة إلى أن مصر تقمع الفرص كافة التي من شأنها أن تساعد المعاقين على الإبداع. صعوبات استخدامهم تكنولوجيا المعاقين بصريًّا وأوضح عمران أن هناك صعوبات كثيرة تحول دون استخدام تكنولوجيا المعاقين بصريًّا في مدارس مصر بشكل عام، ومنها ارتفاع تكلفة تكنولوجيا المعاقين بصريًّا من جانب، وقلة المخصصات المالية المخصصة لتعليم المعاقين بصريًّا من جانب آخر، وغياب المتخصصين في مجال الإعاقة البصرية أثناء عملية وضع الخطط التربوية، وذلك ناجم من غياب الوعي بموضوع الإعاقة بصفة عامة والإعاقة البصرية بصفة خاصة، وعدم مطالبة أولياء أمور المعاقين بصريًّا بحقوق أبنائهم التعليمية، وعدم مراعاة احتياجات المعاق بصريًّا أثناء صياغة المناهج الدراسية وأثناء تصميم الوسائل التعليمية، ووضع الاختبارات التقويمية، وذلك ناجم من قلة الخبرات. وأكد رئيس قسم علم النفس أن الحل لا يكمن في الأفراد فقط بقدر ما يكمن في الدولة أيضًا، من حيث العمل على رعاية حقوق المكفوفين حتى تتمكن مصر من الاستفادة من قدراتهم الإبداعية والابتكارية، لافتًا إلى أن الدور العلاجي يجب أن يكون لأسرة المكفوف قبل أن يكون للمكفوف نفسه، ويجب أن تكرس وسائل الإعلام وحدات خاصة لهم للتحدث مع المسؤولين بهدف تقليل الفجوة الكبيرة بينهم وبين المواطنين كافة. وشدد عمران على ضرورة التعامل بشكل لائق معهم، لافتًا إلى أن الأشخاص المعوقين يميلون إلى التفاعل مع أشخاص عاديون لكنهم يعانون، وهم يفعلون ذلك أكثر من أي فئة أخرى من فئات الإعاقة المختلفة، ربما بسبب حاجتهم إلى التفاعل اجتماعيًّا والشعور بالقبول من الأشخاص الآخرين، فإذا لم يتمكنوا من التواصل مع الأشخاص العاديين، وهذا ما يحدث في الكثير من الأوقات، فهم يتواصلون مع الآخرين المعوقين سمعيًّا، فعلى الجميع أن يدرك تلك النقطة بشكل جيد. وتابع رئيس قسم علم النفس: على الدولة أن تسعى جيدًا إلى توفير سبل التعلم كافة فضلًا عن احتياجاتهم؛ حتى يستطيعوا التكيف والتعايش مع المجتمع بشكل طبيعي.