بثت قناة الجزيرة القطرية الجزء الأول من لقاءها بزعيم تنظيم "جبهة النٌصرة" أبو محمد الجولاني، بعد تمهيد إعلامي ودعائي مستمر منذ شهور، يأتي كخطوة في مخطط غسل سُمعة الجبهة وتقديمها بوجه جديد مصطنع يعيد تسويقها لأطراف الأزمة السورية الإقليمية والدولية كفصيل معارض يشارك مع فصائل مسلحة أخرى في القتال ضد النظام السوري، أو حتى قبولهم بها بمقتضى الأمر الواقع على خلفية الانجازات الميدانية الأخيرة التي حققتها النُصرة في شمال وغرب سوريا وتحديداً في مدينة إدلب، وهي الانجازات التي أتت كثمار أولى للتلاقي التركي-القطري-السعودي وتوحيد جهودهم كجزء من شراكة إقليمية تأتي الأزمة السورية على رأس أولوياتها ودوافع انجازها. أتى اللقاء كخطوة متوقعة من جانب قطر التي دافع أميرها وإعلامها منذ اللحظة الأولى عن وكيلهم الأول في سوريا عقب قرار مجلس الأمن 1270 أغسطس 2014، الذي جرم دعم "جبهة النًصرة" وتنظيم "الدولة الإسلامية" باعتبارهم جماعات إرهابية تحت البند السابع لميثاق الأممالمتحدة؛ ليعقب ذلك موجة من التبرؤ -ولو علني فقط- شملت وضع الجبهة على قوائم التنظيمات الإرهابية في عدد من الدول الإقليمية وعلى رأسها السعودية، فبعد أن كانت العديد من الدول العربية والغربية تعتبر " جبهة النُصرة" عند تأسيسها أحد فصائل "الثورة" السورية التي انضوى تحت جناحها التنظيمات الجهادية والتكفيرية واستجلبت ألاف المقاتلين الأجانب من شتى الجنسيات، أصبحت مساوية لداعش في الوصف والصفة وتفشل جهود أنقرةوالدوحة عقب النزاع الشهير بين البغدادي والجولاني وانحياز الظواهري للأخير وقبوله بيعة الجولاني كقائد فرع تنظيم القاعدة في الشام، في تسويق الجبهة كأحد فصائل المعارضة وشرعنة دعمها الذي لم يتوقف، بل وأزداد وخاصة من الجانب التركي. ومنذ بداية هذا العام، ولعدة عوامل أبرزها تصدع الاستراتيجية الأميركية لمواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" والخلاف بين واشنطن وحلفاءها حول "المعارضة المعتدلة" من حيث تعريفها ومهامها والأهداف المرجوة والسقف الزمني لبدء عملها، كذلك وفاة الملك عبدالله وصعود منظومة الحكم الجديد في السعودية وانتهاء الخلاف الذي بدأه الملك الراحل بين نظامه الدوحةوأنقرة، واتفاق الثلاثة على توحيد جهودهم في سوريا على عكس ما كان يحدث منذ بداية الأزمة، فكانت الجبهة الخيار الأمثل لهذه الأطراف الثلاثة لتحقيق أهداف متفرعة: الضغط من أجل تحجيم خطر داعش، الإسراع في جهود بناء قوة واستحواذ ميداني ضد النظام السوري، تقديم بديل جهادي أخر مطوع وتحت السيطرة ولكن في ثوب جديد؛ فخرج إلى الوجود ما سُمي ب"جيش الفتح" الذي شُكل من "جبهة النُصرة" وعدد من الفصائل المتطرفة الأخرى ونسق مع "جيش الإسلام"، ذراع السعودية الأقوى في سوريا، وغيره من الفصائل على أساس جعل محاربة الجيش العربي السوري ذا أولوية على محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، وخلق طوق أمني يهدف لحصار دمشق، وهو ما بدأ في تحقيق انجاز ميداني في مدينة إدلب، التي كانت معركتها التدشين الرسمي ل"جيش الفتح". بالإضافة إلى ذلك، فأن ظهور الجولاني وجوهر حديثه أمس الرامي إلى تبيان الفرق بين تنظيمه وبين تنظيم "الدولة الإسلامية، هدف إلى تحقيق نصر دعائي موجه بالأساس لعناصر تنظيمه الذين لحقت به هزائم عدة في الأسابيع القليلة الماضية على يد المقاومة اللبنانية في سلسلة الجبال الحدودية في القلمون، والتمهيد لمعركة عرسال التي من المتوقع أن يحقق فيها حزب الله انتصار موازي لأهمية انتصار القلمون، وبالتالي كان ظهوره على الجزيرة رسالة باستمرار وقوة دعم الثلاثي المتحالف حديثاً للجبهة، على الرغم من كافة الإشارات التي يعتقد منها أن هذا الدعم مرحلي حتى بدأ جولة جديدة من مفاوضات جينيف، وأنه لن يستمر بسبب التحفظات الأميركية على دعم حلفاءها للجبهة بسبب اعتبارها فرع لتنظيم "القاعدة" وأن ذلك الدعم مرهون بإعلان الجولاني انفصاله عن "القاعدة" كما أشيع قبل شهور قليلة، لكن ما حدث أن الجولاني لم يعلن ذلك وبالتالي ضمن استمرارية قاعدته العسكرية دون انشقاقات، ولكن مع تحسين صورة الجبهة وبيان اختلافها عن داعش، ليتحول الأمر من رفض وجود كيان تكفيري متطرف مثيل لداعش، إلى خلاف في الرأي ووجهات النظر حول دوره وفاعلية الجبهة كمنجز وحيد حقق نجاحات تغفر له سلوكيات متطرفة، وطرح نقاش الهدف منه خلق حالة تعاطف مثيلة لما حدث مع الجبهة في بداية الازمة السورية، يمحي تلطخ سمعة التكفيريين ومن ضمنهم النُصرة بالعنف والذبح والهمجية، ولذلك شدد الجولاني اكثر من مرة على الاختلافات بين تنظيمه وبين داعش، إلا أنه ومن ناحية أخرى حصر الاختلافات في شكل السلوكيات والتفاصيل الشرعية الدقيقة، مثل استتابة أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى ودعوتهم للدخول في الإسلام-مثل دعوته للطائفة العلوية بالتبرؤ من الدولة السورية وتوبتهم وأنهم بذلك سيكونوا مثل العديد من الدروز الذي استتيبوا ودخلوا إلى الإسلام وهدمت معابدهم- قبل قتلهم، في حين أن داعش لا يفعل ذلك ويقتل فوراً، وهو بذلك ضمن في نفس الوقت عدم خسارة أرضة الصلبة المكونة من مقاتليه ومحاولة اجتذاب من ذهب منهم لتأييد داعش وموازنة ذلك تدريجياً بالفصل فيما بين النصرة والسلفية الجهادية التكفيرية، واعتبارها تنظيم ذو خلفية إسلامية "سُنية"، وما بين الجبهة وما بين داعش وأخيرا تمهيد مراجعة لنهج قاعدة بن لادن على يد الظواهري وهو ما حاجج فيه داعش الأخير ووصفوه بالمنحرف عن نهج سلفه. الجولاني وبإرشاد من محاوره، أكد على أن ليس الجبهة فقط ولكن تنظيم القاعدة ككل يرفض الأن محاربة الغرب انطلاقاً من الأراضي السورية، وذلك على ضوء إرشادات الظواهري، وهو بذلك يبعث برسالة طمأنة لأطراف أوربية اعتبرت الجبهة فصيل مسلح معارض عند نشأتها وليس تنظيماً إرهابي، مثل فرنسا التي أثنت على الجبهة على لسان وزير خارجيتها، لوران فابيوس، وهو الأمر الذي أنعكس للنقيض عقب قرار مجلس الأمن وتفاقم ظاهرة المقاتلين الأوربيين في صفوف داعش والنُصرة. أيضاً كرر الجولاني في حديثه شرح أساس الخلاف بين منهجي داعش والقاعدة حول مسألة الخلافة ومرحلية وتدرج "الجهاد" من وجهة نظرهم، حيث أعتبر على ضوء فتاوى الظواهري وعدد من منظري السلفية الجهادية أن تنظيمه في مرحلة "دفع الصائل"، أي الدفاع وصد الأذى عن المسلمين، وليس الجهاد الذي من وجهة نظر السلفية الجهادية عموماً الذي يعني قتال غير المسلمين، والذي يأتي بعده "فريضة الخلافة" وإقامة دولة إسلامية كما يسميها تنظيم داعش، الذي قفز على هذه المراحل إلى إعلانها مباشرة وهو الأمر الذي يشكل نقطة خلافية بين التنظيم وبين معظم منظري السلفية الجهادية، حيث صرح الجولاني أنه "لم يحن وقت إقامة دولة إسلامية". وبعيد عن هذه النقطة التفصيلة المتشابكة، فأنه بنظرة أعم حاول الجولاني بذلك إيجاد تفسير فقهي يجيب أسئلة المتشككين من جمهور السلفية الجهادية حول نكوص الجبهة عن قتال "الكافرين" سواء بإعلان عداوتهم للغرب أو قتالهم للعدو الصهيوني-الذي يتولى علاج مصابي الجبهة ودعمها لوجيستياً واستخباراتياً- وهو على بعد حجر من مواقعهم، حيث أضلعت الجبهة بتشكيل طوق أمني على طول هضبة الجولان المحتلة، وهو الأمر الذي كان مقبول في أطار وجود اقتتال أهلي استثمرته تل أبيب جيداً في حماية حدودها أو بالحد الأدنى شغل المقاومة عنها، وهو ما تجلى بشدة في عملية القنيطرة التي جاءت بالتنسيق بين النُصرة وجيش الاحتلال. وبخلاف الرسائل إلى جمهور السلفية الجهادية، فأن الجولاني حرص على تأكيد رسائل ضمنية يقف وراءها التحالف القطري-السعودي-التركي، من أبرزها وفيما يخص الأزمة السورية أن ما تبقى من تأثير ضئيل لما يسمى بالمعارضة المدنية الخارجية أنتهى، حيث أن دورها الوظيفي هيئاتها أصبح غير مرغوب فيه وانتفاء رغبة رعاتهم في تركياوقطر في استمرار دعمهم بسبب خلافاتهم او بسبب طرح بعضهم حلول مستندة على اساس مفاوضات جنيف والحل السياسي وهو ما يتعارض مع خطة هؤلاء الرعاة، كذلك تفويت الفرصة على أي طرف إقليمي دولي أو إقليمي يسعى إلى التوسط ورعاية مباحثات في هذا السياق، مثل مصر وروسيا. كذلك كان من ضمن الرسائل المبطنة سواء في حديث الجولاني أو استراتيجية اعادة ترويج النُصرة، هو امكانية القبول بالجبهة على عوارها القاعدي ككيان "سُني" مسلح موازي لوجود حزب الله، وهو أمر مقبول أميركياً وغربياً في ظل تسيد وجهة النظر القائلة أن الصراع في الشرق حالياً هو صراع على أساس مذهبي بين السُنة والشيعة، وما يؤكد هذا تصاعد خطاب مساواة المقاومة اللبنانية بالتنظيمات الإرهابية في مغالطة يشدو بها الكثير من ليبراليين ويساريين الدوحة، وهي الاستراتيجية السعودية القديمة التي ما ملت الرياض من فشلها في لبنان، والتي هدفت لخلق كيانات جهادية سلفية مسلحة كان من المفترض أن توازي وجود حزب الله أو على الأقل تكون شوكه في خاصرته، وتجربة أحمد الأسير وفتح الإسلام وغيرها من التنظيمات التي يتركز وجودها في مدينة طرابلساللبنانية، وصولاً إلى تمدد "جبهة النُصرة" إلى عرسال وبعلبك-الهرمل والقلمون ولو حتى في صورة لاجئين شكلوا غطاء اجتماعي وبيئة حاضنة لعمليات تهريب ونقل الأسلحة والسيارات المفخخة من لبنانلسوريا والعكس. حتى كتابة هذه السطور لا يبدو أن هناك معارضة أميركية أو غربية للتعاطي مع "جبهة النُصرة" وفق الرؤية المشتركة للدوحة والرياضوأنقرة، وأقصى ما فعلته الإدارة الأميركية حيال ذلك هو "إبداء القلق" من تعاون حلفاءها مع "القاعدة"، وبالتالي فأنه من الممكن القول أن الإدارة الأميركية تنتظر ما ستؤول إليه مساعي حلفاءها، خاصة وأن الخلاف بين واشنطن وبينهم فيما يخص "المعارضة المعتدلة" تفصيلي وثانوي وما لبث أن أظهرت التطورات تنحيته، أخر هذه التطورات هو اتفاق أنقرة مع واشنطن على فرض منطقة حظر جوي شمال سوريا، بعد الاتفاق على تدريب المقاتلين "المعتدلين"، وذلك يأتي متسقاً مع نتائج ما يقارب من عام من الشروع في تنفيذ استراتيجية أوباما الخاصة بمحاربة تنظيم داعش، الذي لم يتأثر بالغارات الجوية الأميركية وتمدد في سورياوالعراق من جديد بعد اندحار في العراق على يد القوات العراقية والحشد الشعبي بإدارة وتخطيط إيراني، وعلى يد قوات وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا؛ أو ربما يتجاوز الأمر هذا إلى القبول بوجود ميداني للنُصرة في سوريا لما يزيد عن ما ذُكر أعلاه وهو الحد من تمدد داعش نحو أماكن المصالح الأميركية وأنابيب وحقول النفط، وذلك ليس مستهجناً أو غريباً في ظل الكشف عن وثائق لوزارتي الدفاع والخارجية في أميركا تفيد بقبول واشنطن في 2012 لإمارة تكفيرية في سوريا..بعبارة أخرى يقدم الجولاني تنظيمه على أنه القاعدة ولكن على نحو أكثر مرونة واعتدالاً يتسق مع مصالح واشنطن وحلفاءها في المنطقة. موضوعات متعلقة: