لا يمكننا أن نغض الطرف عن تلك المحاولات المتعددة التي تكاثرت أشكالها بادعاء التفاعل مع النص وهي بالمقابل تحاول النيل منه، وهي في حقيقتها لا تهدف إلا الهدم والإجهاز، والنص بما كان له من سطوة غابرة لم يعد قادرا على رد تلك المحاولات، فهو بين محاولات المدافعين والمهاجمين لا يقوى على الخروج من تلك الحالة التي تبتعد به كثيرا عن إمكانية الحسم وهو قيد التناوش المستمر، ولا سبيل إلى إدراك متجدد لفاعلية نصية لم تعد اليوم مبرهنة بشكل كبير على عبور آمن لتلك الأزمات المتلاحقة. لقد تعددت الصيغ منذ القدم من أجل تطويع النص ليكون أكثر مناسبة لمقتضيات الواقع، محتملا بشكل أكبر لتأويلات حالت دون إقصائه، فتراكمت الشروح والتفاسير والأوجه التي تصل إلى حد التعارض، إلى التفريغ من المضامين الهامة، إلى احتجازه في حدود بيئية وزمنية تمهيدا لتعطيله وانقطاعه بالكلية عن فاعليته، ومن ثم تحويله إلى أوراد للتعبد فقط، إلى إفساحه وتعميمه على نحو يفقده القدرة على المناسبة والتأثير، إلى مجاورته بنصوص أخرى تستمد منه بعض القدسية، ثم ما تلبث أن تنحيه أو تزيحه؛ لتكون لها الكلمة العليا، بتبرير أن النص الأول حكر على فئة من الناس دون غيرهم، يتعاملون معه وفق منهجية صارمة تتلمس النجاة من الزلل في كل خطوة تخطوها؛ فتعود في الغالب خالية الوفاض، وهو ما اعتبر كهنوتا. بالقطع لا يستطيع أحد أن يعزل النص عن تفاعلات عصره، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن النص يمكن إسقاطه على واقع تباعدت به القرون، حتى يطرح السؤال: وما الحاجة إلى كل هذا العناء بسبب الانشغال بالنص ومن ثم ما تعلق به من تراث؟، نحن لم نستطع إلى اليوم الاشتباك معه بالقدر الذي يحقق أدنى قدر من الاستفادة، كما يوضح محمود أمين العالم، "فيما يتعلق بالموقف من تراثنا القديم، فلا ينبغي أن نقف موقف الرفض أو الاستهانة أو الاستخفاف، ولا موقف التقديس والتقليد الأعمى، ولا موقف الانتقائية والتجزيء والنفعية، ولا ينبغي أن يكون موقفا من مضمون دون الشكل، أو من أشكال دون مضمون". لا يجب إذن أن نتبنى موقفا حديا من التراث، ونحن في حقيقة الأمر نتعامى عن حقيقة أن النصوص بتجاوراتها تلك قد خلقت حالة من الفوضى أورثت النصوص ذاتها تشوهات شابت طريقة تلقيها والتعاطي معها، كما يشير عبد الجواد ياسين، بخصوص نصوص السنة التي دونت في كتب مستقلة كمتون سردية صرف، بغير إشارة إلى سياقات الواقع التي كانت تلابسها في لحظات التلقي الأولى أو في ظروف التدوين المتأخرة، والعقل الإسلامي يتعاطى معها ككائنات تشريعية مطلقة، وكاملة الكينونة، بمعزل عن العوامل الخارجية. ومما لا يمكننا التغاضي عنه تلك التأثيرات الغربية الواضحة التي صبغت تعامل الكثيرين مع النصوص، فيبدو الأمر غريبا إذ يدعي هؤلاء عدم مناسبة تلك النصوص لواقعنا المعاصر، بحيث تكون الطريقة الوحيدة للاستفادة منها هي هدمها وتمزيقها شر ممزق!، في حال أن هؤلاء يتبنون منهجا غربيا صرفا إزاء النص، مع التعامي التام عن أن تلك المناهج هي نتاج بيئتها، ومحصلة تجربة مغايرة إلى حد بعيد، وبالقطع فإن ذلك ليس معناه عدم تبني منهج علمي واضح في التعاطي مع النص، غير أن إغفال الخصوصية هنا يقدح كثيرا في صدق توجه من حملوا على عواتقهم مسؤولية مواجهة النص باعتباره فرية يجب دحضها. مما يتوجب علينا فعله –أيضا- ألا ننطلق من مبدأ تعارض النصوص واختلافها بالشكل الذي يؤدي بها إلى حال من الفوضى، لذلك اقتضت الضرورة إعادة التبويب والتصنيف لكثير من النصوص بشكل لا يؤدي إلى الخلط فيما بينها، وسيكون ذلك أجدى كثيرا في إمكانية فهمها دون تربص، ودون إغفال تاريخية بعض هذه النصوص، دون انتقاص للإسلام بدعوى أنه لا ينفك عن كونه تاريخا سياسيا واجتماعيا للمسلمين، كما يخلص المستشار عبد الجواد ياسين، إلى أن "الإسلام ليس شيئا سوى النص، وأن الخلط بين النص والتاريخ بما حفل به من وقائع كان هدفه انتقاص الإسلام بافتراض أنه التاريخ السياسي للمسلمين، كما أن الخلط بدا واضحا بخصوص السلطة في الإسلام بين الشكل والموضوع، وذلك بإسقاط الأدلة النصية والتاريخية التي تنفي الإلزام بشكل معين من أشكال السلطة على منهاج السلطة الموضوعي ذاته؛ فانتقلت بذلك من القول بعدم وجوب الشكل إلى القول بعدم وجوب المنهاج أو عدم وجوده من الأساس". إننا في تعاملنا مع النص نحاول جاهدين التخلص من تبعات يلقيها علينا التقيد بأطر التناول القديمة، فإذا تلمسنا سبيلا للخروج من تلك الأطر التي نحسبها ضيقة، ما يلبث البعض أن يصبح عدائيا جدا باتجاه النص؛ لذلك نحن بحاجة إلى مستويات أخرى للتعامل مع النص تتجاوز تلك الحالات المتشنجة على الجانبين، مستويات تطمح إلى فهم أعمق من خلال رؤى تتسع لتشتمل على ما يمكن أن يتجاوز بالنص إلى قبول جديد له، ومن ثم وجه آخر للاستفادة لا المواجهة، فنحن مهما حاولنا لن نستطيع التخلص منه أو معاداته بالكلية، فهو في النهاية تراثنا الذي يشكل الجزء الأهم من تكويننا الثقافي والمعرفي، وهو ليس قائما بذاته بقدر ما هو قائم وفق قراءتنا له وموقفنا منه وكيفية توظيفه في حياتنا، وهو كما يقول أمين العالم، "متحقق بالفعل ماديا وموضوعيا في نص وفي فكر، في معرفة علمية، في ممارسة وفي سلوك، في عمارة وفي بناء، في نظام حكم، في أشكال تعبير قولية أو حركية… كما أنه موجود قائم يتحقق كذلك بالفعل زمنيا في لحظة تاريخية اجتماعية معينة، وتتراكم هذه اللحظات الزمنية وتتصل لتشكل تاريخنا القومي الثقافي- التراثي العام- على أن هذا الوجود التراثي المتحقق ماديا وزمنيا وتاريخيا ينتسب إلى الماضي، ولهذا فهو تراث". ليس من مصلحتنا على الإطلاق برغم ما نعانيه من إحباطات أن نوسع الفجوة بين واقعنا وإمكانية بعث التراث بما يتفق مع متطلبات الواقع دون أن نغفل ضرورة أن يكون استدعاؤه مناسبا لمقتضيات وظروف هذا الواقع، وإلا فلا سبيل إلى الخروج من دوامات الاشتباك حول النص والتلاسن بشأن التراث دون إثراء للواقع، ودون أدنى مقدرة على التخلص من هذا الإرث.