كنت منذ صغري اعشق مجالسة كبار السن في العائلة، وفي كثير من الاحيان أترك لعب الصغار أو الحديث مع من يقاربونني في السن وأجلس تحت قدمي جدتي وغيرها من عجائز العائلة، لأستمع إلى حكاوي الماضي البعيد، وخصوصا حين أدركت أن كبار السن يستمتعون بشكل غريب حين يسألهم أحد عن ذكرياتهم فيبدأون الكلام على الفور دون توقف. لم أكن محظوظا مثل هؤلاء الذين رأوا أجداداهم الذكور فجدي لأبي وجدي لأمي كلاهما توفيا قبل ولادتي، لكن الله أنعم علي بجدتي لأمي رحمها الله، التي عاشت حتى بلغت العشرين من عمري، وعوضني الله ببعض كبار العائلة أمثال أخوال أبي وزوجاتهم الذين عمروا طويلا حتى بلغت بضع وعشرين عاما.أتذكرهم جميعا كلما يأتي شم نسيم جديد فكل منهم روى لي قصصا مرتبطة بهذا اليوم، وكنت دائما ما أحرص على سؤالهم في كل عام عن ذكرياتهم بهذا اليوم، وفي كل عام تكون نفس القصص ونفس الحكايات. ورغم اختلاف تفاصيل الحكايات ونظرة كل منهم لليوم حسب نوعه ذكر كان أم أنثى، وحسب عائلته كانت غنية أم فقيرة، إلا أنه ثمة شعور مشترك كان يجمع حكاياتهم جميعا وهو الإحساس بافتقاد البهجة. فعلى ما يبدو أن يوم شم النسيم في الماضي غير البعيد لم يكن يختلف أبدا عن أي عيد ربيع في الدول الحضارية الزراعية العريقة الكبرى في العالم، كالصين التي تنقلب رأسا على عقب قرابة العشرة أيام في استقبال الربيع، وكالهند أم العجائب التي تتلون وتتزين بشكل يدخل البهجة في أكثر القلوب هما أو حزنا، أو كشعوب وسط آسيا من الأتراك والكر د والفرس في عيد النيروز الشهير. كانت مصر تخرج عن بكرة ابيها منذ فجر يوم شم النسيم وحسب ما اتفقوا عليه جميعا كانت البيوت والشوارع تكون شبه مهجورة تماما فكل الناس على شاطئ النيل أو كما يسمونه البحر. لم يكن لديهم اي تعقيدات أو فتاوى بل كان الأزهريون والمشايخ يخرجون بعماماتهم وسط الناس، ويأكلون معهم الفسيخ والملوحة. وأغلبهم لم يكن يعلم من الأساس أن ثمة عيدا دينيا مسيحيا يسبقهم بيوم، أتذكر جيدا ان جدتي لم تكن تعلم بهذا الأمر رغم كبر سنها، ومرور عقود طويلة من شم النسيم عليها حتى أبلغتها أنا بهذه المعلومة، ولم تبد اهتماما بها كما يحدث في أيامنا هذه .. أتذكر جيدا أنهم جميعا وبعد سؤالي لهم مباشرة عن ذكرياتهم كانوا يبدأون بتنهيدة شوق، وتعليق يختلف في ألفاظه ويتفق في معانيه دائما: كنا سعداء ولا نفكر في شيء سوى كيف نقضي اليوم بعيدا عن اي هموم؟ وليس مثل أيامكم التي غاب عنها كل احساس بالسعادة، وكان أحدهم لا يمل من إخباري (أيامكم منيلة لا عارفين تنبسطوا ولا عارفين تزعلوا رقصتوا على السلم) وآخر يقول (أيامكم أيام نكد). لا أعرف لماذا لم نعد نفرح؟! بل صار أغلبنا لا يعير اهتماما للفرحة، بين عابس معقد ينظر إلى البهجة على أنها شيء يعبر عن السخف والفراغ، ويرى أنه يجب عليه تذكيرنا بما نعيشه من هم وغم، وبين عدو للفرحة ورسول للشر دائما ما يبحث عن طريقة يُحرم بها فرحتنا وبهجتنا، وتحويلها إلى حرب على الدين، وبين جاهل أحمق يعتبر السعادة في التحرش بالفتيات، وملأ الطرقات ضجيجا وهمجية! هذا ببساطة ربما لأننا لم نعد نحن، ولم نجلس تحت أقدام أجدادنا لنستمع منهم، فلم يعد لنا هوية ولا معرفة بأنفسنا. بتنا كالغرباء في أوطاننا، لم نعد ذلك الشعب المبهج الذي يعرفه العالم بخفته ومرحه وبساطته وبهجته، ذلك الشعب الذي حول حتى يوم زيارة القبور إلى نزهة و(طلعة) يخرج فيها للقرافة الكبيرة بفرحة وسعادة، ليدخل البهجة حتى على الأموات .. لكنه اليوم يرى طلعة القرافة أيضا إما سخافة أو بدعة أو فرصة للتحرش . أقول اليوم وأدعو ربي بكل صدق (اللهم أدخل على بلادنا البهجة، وعلى قلوبنا السرور، وردنا إليك مردا جميلا فأنت الجميل العدل الحق، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).