نحن نعيش أزهى عصور الفهلوة.. كل شيء حولنا يدار ب"الفهلوة والحداءة".. الحداءة تعبير مصري صميم لا يفهمه إلَّا المصريون فعلًا.. فيكفي أن تقول عن شخص إنه فهلوي أو حدِء؛ لكي تلخص عشرات من المعاني يفهمها المستمع لو كان مصريًّا أما لو كان أجنبيًّا فسيكون الأمر صعبًا للغاية لشرح الأمر ومعانيه.. على ما يبدو أنه ومنذ مدة طويلة جدًّا تسير الأمور في وطننا بشكل عجيب، فلا تخطيط ولا استراتيجات.. كله بالبركة.. حتى التخطيط للقمع أو عمل استراتيجية لبناء ديكتاتورية بشكل متين كان بالبركة.. هذه الدولة "العميقة" التي تحدث الكثيرون في الفترة الماضية عن عبقرية إدارتها للأحداث منذ يناير 2011 واعتقد الكثيرون أنها رسمت سيناريو استراتيجيًّا مخيفا للالتفاف حول ثورة يناير، واستطاعت بحنكة شديدة أن توصل الإخوان للحكم، ثم قضت عليهم كأفلام هوليوود، هذه الدولة لم تحقق كل هذا فيما يبدو إلَّا بالفهلوة والحداءة.. ظهر هذا جليًّا في ما أذيع من تسريبات أخيرة، والتي حتى الآن لم يعلق أي من أصحابها على صحتها أو كذبها، وليس الحديث هنا عن التسريبات أو عن محتواها وتحليله سياسيًّا أو التنبؤ بما قد تؤدي إليه، فمحتواها في رأيي عاديا لا يمثل في عالم السياسة أهمية حقيقية في عصر المصالح المعقدة وتبادل المنافع، ولكن أهميته كانت بالنسبة لي تكمن في إدراك العقلية التي تدير البلاد، وكيف ينظر قادة هذا الوطن لهذا الوطن، وما هي استراتيجية حل المشاكل لديهم، وكيف ينظرون لهذا الشعب الذي يعتبرهم رمزًا لسيادته وكرامته ويحملهم أحلامه وطموحاته؟ ظهر هذا جليًّا أيضا في تحريك الرأي العام تجاه ما حدث في مجزرة استاد الدفاع الجوي، ليتحول هذا الرأي العام إلى سجال بعيد عن الحقيقة أصلًا.. فكان السؤال هل كان السبب هو التدافع وبلطجة الشباب أم هو قتل الداخلية المباشر؟ وهذه هي الحداءة بعينها.. فهل تناسيتم أن الموت على أبواب الاستاد هو مسؤولية الداخلية أولًا وأخيرًا و بدون الدخول في تفاصيله من الأساس، فمنع التدافع في الأصل هو مهمة الداخلية وقد فشلت في الترتيب مما أدى لزهق "أرواح البشر" وهو أمر لو تعلمون خطير، زهق أرواح البشر، هل باتت هذه الكلمة تعني لكم شيئًا؟؟ الموت ليس أمرًا هينًا كما اعتدتم أيها السادة بل إن الموت في حد ذاته مأساة يجب أن يحاسب كل من تسبب فيها بعمد أو غير عمد.. ولكن لنا وقفة أخرى هنا فطريقة الفهلوة تلك التي استدعت على الفور أبواق الإعلام للحديث عن المؤامرة على مصر وتآمر الإخوان ولم يكن ينقصهم سوى استدعاء جنود حماس والقسام إلى الاستاد تلك الطريقة تشرح بوضوح أن من يديرون البلاد لا يتحكمون في تفاصيلها ولا يديرون شؤونها إلَّا بالحداءة والمفهومية.. وأنهم حتى لا ينسقون سويًّا وربما يكون بأسهم بينهم شديدًا.. وأن هذه الدولة العميقة ليست عميقة بقدر ما هي ممزقة ومهلهلة واجنحتها تحلق دون تنسيق أو تنظيم أو تخطيط.. وهو ما يعني بالضرورة السقوط.. منذ ال30 من يونيو تحدثنا وتحدث الكثيرون عن سنن التاريخ وأن التاريخ له قواعد وأحكام ولا يجدي معه نفعًا الفهلوة أو الحداءة وإنما التخطيط الجاد والاستراتيجي والعمل بحق وصدق للمصلحة، فلم يعمل أحد بصدق أو برؤية عميقة حتى لمصلحته هو أو لمصالحه الشخصية! ولأن التاريخ يسقط الأغبياء ويبقي على الأذكياء تحدثنا بصدق عن أن الوطن يحتاج قوة حقيقية وأن التحايل على التاريخ ليس كالتحايل على الثورة.. ولكن أحدًا لم يفهم.. نقولها ثانية أنت تستطيع أن تلتف حول الثورات وحول إرادة الشعوب أحيانًا، ولكنك لا تستطيع أن تلتف حول حركة التاريخ.. حركة التاريخ التي قررت وحسمت قرارها أن "الشرق الأوسط كله وفيه بلادنا حان فيه وقت التغيير".. وكل الشعوب فيه تتطلع لهذا التغيير.. فالذكي هو من يعرف كيف ينجو بوطنه وشعبه ويقدم التغيير الحقيقي والجذري، الذي يتحرك مع حركة الزمان وفي نفس الوقت يحافظ على الوطن، والذكي أيضًا من جهة أخرى هو الذي يركب موجة التغيير فيحقق مصالحه الشخصية وطموحاته ومشاريعه وهم كثر، أما الغبي هو الذي يستعرض قوته أمام موجة التاريخ بالفهلوة والحداءة ليبقى الوضع على ما هو عليه أو كما كان.. لن أتحدث كعادتي دائمًا عن المطلوب لتدارك الوضع كنوع من براءة الذمة وراحة الضمير؛ لأنني أخشى حقًّا أن يكون الوقت فات وأخشى حقًّا وصدقًا أنه لا حياة لمن تنادي..