أنصح بقراءة الحلقة الأولى والثانية المنشورتين من قبل على موقع البديل الإلكتروني كتبت في حلقتين سابقتين تحت نفس العنوان عن سنن التاريخ وحساب الشعوب والأمم وكيف يكتب كل نظام حاكم بيده عمره الإفتراضي وتاريخه .. واستكمالا لنفس الدرب رايت الناس في يومنا يتحدثون عن النصر والهزيمة وعن "المصير" وكيفية النهوض.. هل النصر حق مضمون لصاحب الحق ؟! وهل نفهم من الأية " وكان حقا علينا نصر المؤمنين" أن النصر حق مكفول .. بالطبع هنا ايضا هل تسائلنا معنى المقصود بالمؤمنين ؟ هل المعنى هنا هو الإيمان الفقهي والإنتساب للملة والإلتزام بالعبادات ؟؟ أم أن مصطلح الإيمان والكفر له معنى آخر بعيد كل البعد عن ما نطلقه اليوم من معاني تجعل بعضنا يضرب رؤوس البعض؟؟ .. ولكن هذا مجال بحث آخر .. ولكن هل النصر مكفول ومضمون ؟! في الإسلام النصر ليس مكفولا للمؤمنين أي انه ليس حقا إلهيا وإنما حقا ترتيبيا، فمثلا هل كان انتصار المسلمين في بدر نصرا لله وهزيمتهم في أحد "والعياذ بالله" هزيمة له ؟! المراد من لفت النظر هنا لهذه القضية هو ان مصير الأمم بالنصر أو الهزيمة مبني في الأساس على انفسهم فإذا وفروا الشروط الموضوعية للنصر انتصروا وإذا أخلوا بها هزموا .. "وتلك الأيام نداولها بين الناس " فالأيام تدوال بين الناس .. كل الناس حسب معايير وقوانين وسنن التاريخ التي تحدثنا عنها من قبل وليس حسب الإيمان والكفر .. فلا يكفي أبدا الإيمان بقضية والإخلاص لها أن يحقق النصر .. وإنما توافر الشروط التي يبنى عليها هذا النصر هو وحده الكفيل به.. وكذلك لا يكفي أبدا أي نظام حكم أن يكون مخلصا أو مؤمنا لتحقيق نصر للوطن وإنجاز حلم الأمة بالنهوض وإنما لابد من تتبع سنن التاريخ وتوفير الشروط اللازمة لذلك.. والشروط نوعان شروط علمية مادية وشروط إجتماعية أو مجتمعية .. أما العلمية فمعروفة من حيث التخطيط السليم والإستعانة بأهل الثقة والخبرة والصدق والإدارة السليمة واتباع الأساليب الصحيحة والإعتماد على دراسة الواقع وقبل كل هذا الإرادة الحقيقية للإنجاز.. ولكن هناك شروط أخرى يجب أن تتوفر في المجتمع الراغب في تحقيق النصر يوضحها المنطق القرآني لمن يعي اعماق معانيه ، "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" .. هذه الاية تبدو لأول وهلة تتحدث بشكل بسيط عن الإبتلاء في الدنيا والصبر عليه لدخول الجنة ! ولكنها تحمل معنا أكثر عمقا للمتدبر فهي تتسائل .. هل تطمعون أن تحققوا النصر والفوز بأن يكون لكم استثناء من قواعد التاريخ وسنن الأمم؟ كيف تحققون النصر ولم تعيشوا ماعاشته الأمم قبلكم ؟ ان النصر هو النجاح في الإمتحان فهل من الممكن ان تنجحوا استثناءا دون امتحان ؟! وباتالي فالمجتمع المغرور الذي يظن أن له عند التاريخ استثناءا وأنه يستطيع أن يحقق أحلامه دون امتحان لن ينجح بكل تأكيد لأن التاريخ "الدهر" لا يعرف الإستثناءات وهو ما يتأكد بالمنطق القرآني " فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ "َ فلا مبدل لكلمات الله .. الله الدهر التاريخ لا يعطي استثناءا لأحد .. من شروط المجتمع الذي يستحق النصر ايضا هو مدى قربه من المصلحين الحقيقيين فالمجتمع الذي يبلغ ذروة الرفض والمعارضة لمن يريدون اصلاحه مجتمعا لا يمكن ان ينعم بنهضة او نصر.. بل إن المجتمع الذي يحرص على الاقتراب من اصحاب الإصلاح والواهبين أنفسهم لتحقيق النصر هو المجتمع الذي يحق له الفوز وليس من ينهرهم ام يطردهم او يسجنهم او يسخر منهم .. بالطبع لا اقصد هنا انه سينزل عليهم عذاب السماء أو تخسف بهم الأرض .. وإنما سيتحول المجتمع لمجتمع جامد منهار في حقيقته ميت في واقعه .. أما الكارثة الأكبر التي تعيق اي مجتمع ايضا عن النهوض وتحقيق النصر هي الطبقة الرأسمالية المترفة التي لا تألو جهدا في الحفاظ على مصالحها ومكاسبها ولو بتدمير المجتمع وتحطيمه فهم ينفقون من أموالهم سعيا لوأد كل تغيير قد يوقف جشعهم وطمعهم "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين" فهناك علاقة تلقائية العداء بين الإصلاح من جهة والطبقة المترفة والمسرفة من جهة أخرى، وبالمنطق القرآني فإن المصلح "النذير أو النبي أو الإمام أو العبد الصالح" حسب اللغة القرآنية لابد له بطبيعة الحال وطبقا لسنن التاريخ أن تواجهه هذه الطبقة بكل ما أوتيت من قوة .. وحتمية التاريخ أيضا تحتم سقوط المجتمع الذي يستسلم لمترفيه ضد مصلحيه وينصرهم عليهم .. وأختم بالجملة التي أكررها في كل حلقة أقول لهم: "هل سرتم في الأرض فرأيتم كيف كانت عاقبة الذين من قبلكم؟؟ هل علمتم أن كل قرار تأخذوه وكل خطوة تمشونها تحمل في داخلها معادلة حسابية دقيقة جدا، تحدد بتعاملها مع معادلات أخرى عمركم الافتراضي وبقائكم في التاريخ؟!