تطرح الثورات العربية الأخيرة سؤال الثورة مجددًا في الفكر العربي الحديث (أو المعاصر)، بصدد مدى مشاركته فيها، وبصدد مفهومه عنها، والتيارات التي ظهرت فيه بصددها، وغيرها. وربما أوضحتْ قسمة اتجاهات الفكر العربي الحديث على أساس موقفه من الثورة إجابات هذه الأسئلة؛ حيث يمكن قسمة هذه الاتجاهات حسب هذا المحور كالتالي: 1-تيار الثورة الاجتماعية، أو تيار الأفغاني: وهو الذي طرح فكرة الثورة طرحًا مباشرًا ونظّر لها، وأصّل لها تاريخيًا، واستهدفها استهدافًا واضحًا، وبحيث هي ثورة يقوم بها الكادحون وعموم الناس في المجتمع؛ أي أنها غير قاصرة على المثقف أو المتعلم، وربما شارك المفكر بنفسه في العمل السياسي الثوري، من أمثال: الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد)، مالك بن نبي (أو الخلدونية المعاصرة، أعماله المتأخرة بعد 1954)، علي شريعتي (الثورة الإسلامية)، أدونيس (الثابت والمتحول)، حسن حنفي (التراث والتجديد/اليسار الإسلامي)، حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)، الطيب تيزيني (من التراث إلى الثورة/من التراث إلى النهضة)، أبو يعرب بالمرزوقي (النهضة الإسلامية)، سمير أمين (المادية التاريخية العربية المعاصرة)، محمود أمين العالم (اللينينية العربية). 2-تيار الإصلاح الثقافي والعَقَدي أو تيار محمد عبده: وهو الذي لم يطرح فكرة الثورة بشكل مباشر، ولم يؤصل لها تاريخيًا، ولم يستهدفها مباشرةً، بل حاول تطوير وعي المثقفين لتأسيس طليعة تحقق إصلاحًا اجتماعيًا عن طريق الوعي. وبينما خاطب التيار الثوري السابق وعي العوام جزئيًا، فقد ركز هذا التيار على وعي المتعلمين والمثقفين، وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: أ-أصولي راديكالي، أي يؤمن ب ويدعو إلى العودة الجذرية إلى أصول إسلامية دون محاولة تأويل هذه الأصول حسب مذهب سياسي ما، مثل: سيد قطب (معالم في الطريق). ب-علماني راديكالي، أي يؤسس للعلمانية في أساسها دون أن يدعو إلى مذهب سياسي ما مندرج تحتها، مثل: مراد وهبة (ملاك الحقيقة المطلقة). ج-أصولي متمذهب، أي يمذهب الأصول الإسلامية طبقًا لأيديولوجيا ما، مثل: عبد الرحمن بن باديس، محمد عبده، محمود طه (الرسالة الثانية في الإسلام) رغم أنه قائد ثورة رفاعة في السودان، لكنه لم ينظّر للثورة في فكره، عثمان أمين (الجوانية)، محمد باقر الصدر (الثورة الإسلامية من خلال الفكر الشيعي)، محمد إقبال (الثورة الروحية الإسلامية)، طه عبد الرحمن (الحداثة الإسلامية). د-علماني متمذهب، أي يمذهب العلمانية طبقًا لأيديولوجية ما، مثل: عبد الرحمن بدوي (الوجودية العربية)، سلامة موسى (الفابية العربية)، لويس عوض (الاشتراكية الديمقراطية العربية)، زكي نجيب محمود (الوضعية المنطقية العربية)، فؤاد زكريا (العلمانية العلمية الليبرالية)، إدوارد سعيد (نقد الاستشراق)، محمد أركون (نقد العقل الإسلامي)، الجابري (العقلانية العربية)، نصر أبو زيد (التأويلية العربية)، علي مبروك (نقد الفكر الأشعري)، علي حرب (التفكيك العربي). 3-تيار الإصلاح الاجتماعي، أو تيار الطهطاوي: وهو التيار الذي استهدف الإصلاح الاجتماعي عن طريق مشروعات مدنية وعمل حزبي غير ثوري، وربما تعاون مع السلطة من أجل أهدافه الإصلاحية، فتقلد وزارات أو مناصب هامة، أو كان من مفكري الدولة الرسمية، وهو تيار غير ثوري، ولم يضع-كالتيار السابق مثلاً-برنامجًا لتطوير وعي المثقف أو المتعلم، أو يعتمد على المثقفين خاصة في التغيير الاجتماعي، وهو قد يمثل عربيًا فكرة كارل بوبر عن (الهندسة الاجتماعية الجزئية) أي الحلول الواقعية الجزئية غير الشمولية وغير الثورية، مثل: رفاعة الطهطاوي، أحمد خان، خير الدين التونسي، طه حسين، العقاد. 4-التيار غير الاجتماعي: وهو عدد من المفكرين الذي ساهموا مساهمة هامة في الفلسفة العربية المعاصرة لكنهم لم يوجهوا عملهم توجيهًا اجتماعيًا سواء كان ثوريًا أم إصلاحيًا، مثل: زكريا إبراهيم (مشكلات فلسفية)، وعبد الله العروي (الأيديولوجيا العربية والمفاهيم الفلسفية). -ويمكن التوصل إلى الملاحظات التالية من التصنيف السابق: * تداخل الجانبين العربي والفارسي أو الإيراني، حيث يشتركان في مشكلات وحلول بسبب اشتراك الديانة ومشكلات المجتمع وظواهر الفكر من استعمار وتحديث وأصولية. * طغيان التيار الاجتماعي، باتجاهاته الثورية والثقافية والاجتماعية، حيث يعتبر الفكر العربي الحديث فعلاً فكرًا اجتماعيًا في المقام الأول، يهتم بمشكلات المجتمع العربي وتحولاته. * ضعف اتجاه الإصلاح الاجتماعي، الذي يحول الأفكار إلى مشروعات، ويعمل عملاً إصلاحيًا غير راديكالي مع أطراف متنوعة سياسيًا، فلم يمثله سوى خمسة مفكرين فقط. وهذا قد يعود إلى ضعف المؤسسات المدنية في العالم العربي، وضعف العمل الحزبي، والانبهار بنماذج فكرية ثورية خاصة عند اليساريين والإسلاميين، مثل: لينين، وتروتسكي، وجيفارا، وسارتر، والثورة الإسلامية في إيران، وطغيان الحل المثالي، من الفكر إلى الواقع، وليس العكس، فآمن المفكر بأن الثورة تبدأ في الوعي، أو يؤَسَّس لها في الوعي، كي تحدث في الواقع. * ندرة الراديكالية في التيار الإصلاحي الثقافي والعقدي في مقابل التمذهب، وهذا لطغيان التسييس والأيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر، وضعف التعليم في العالم العربي إذا ما قورن بالغرب، الذي يحول دون قراءة وفهم أفكار مجردة، خاصة عند التيار العلماني الراديكالي. * تمركز تيار الثورة الاجتماعية (تيار الأفغاني) في الربع الأخير من القرن 19، والربع الثالث من القرن 20، وهذا لقوة التحولات الاجتماعية آنذاك، من استعمار في نهاية القرن 19، وحركات التحرر من الاستعمار في الربع الثالث من القرن 20، مما يوضح أكثر الطبيعة الأيديولوجية للفكر العربي المعاصر. -ما بعد الثورات العربية؟ نجحت الثورات العربية نجاحًا جزئيًا، فقد نجحت الديمقراطية في تونس مرتين، مرة في خلع الديكتاتور، ومرة في إزاحة الإسلاميين بشكل ديمقراطي، فاكتملتْ دورة حياتها الضرورية. أما في مصر، فقد عاشت المصريون مناخًا ديمقراطيًا حقيقيًا بين فبراير 2011 ويوليو 2013، وحرية فكر وتعبير وإعلام واضحة. وبهذا نجحت الثورة المصرية 2011 في خلع الديكتاتور لكنها لم تنجح في إزاحة الإسلاميين ديمقراطيًا، الأمر الذي أدى إلى تعثرها، الذي هو تعثر مؤقت، فمع الوقت وضغط المشكلات المتفاقمة ستقبل كل الأطراف بحلول إصلاحية وسطى أقل راديكالية، وسيقل الاستقطاب السياسي الذي كان عدوّ الثورات العربية الأخيرة. ستقبل السلطة ببعض الإصلاحات، وسيقبل الثوار بمنهج الإصلاح، ويقبل رجل الشارع ببعض التغيير، نتيجة لضغوط الأزمات الأمنية والاقتصادية بالذات. وعندئذٍ سوف يتحرك الفكر العربي المعاصر من الواقع إلى الفكر، وسيبدأ تنظير الثورة من المجتمع، وتتغير المشكلات والمفاهيم تغيرًا غير محدود، وربما تحدث طفرة تعليمية (خاصة في تونس) تطور شكل الخطاب الفلسفي العربي ليتجاوز الأيديولوجيا، ويتحول جزئيًا إلى الفلسفة النظرية.