الفيلم ينتقد أداء الشرطة لكن لا يهاجمها.. ويرمز إلى التيار الديني و30 يونيو طالما اقترنت كلمة "جزيرة "بالهدوء والانعزال .. إلا أن جزيرة ما قد تضم قصة الحياة بصراعاتها وصراعات من عليها فتكون كبؤرة مركزة لقصة الحياة، أو لبلد كبير تضرب جذوره في الزمن. يأتي فيلم "الجزيرة 2″ للمخرج شريف عرفة كجزء ثان لجزئه الأول الشهير "الجزيرة" ، يستكمل أحداثه في ضوء زمن جديد له طبيعته وأحداثه، فمنصور الحنفي بطل الفيلم الذي يؤدي دوره الفنان أحمد السقا والذي تتماس قصته مع شخصية حقيقية في الصعيد هي "عزت الحنفي"، قد حكم عليه بالإعدام فيرتدي البدلة الحمراء كنقطة بداية للأحداث التي تبدأ في اليوم السابق 25 يناير 2011 . فالفيلم يرصد الأحداث وتقلبات الشخصيات وتقلبات الثوابت وانعكاسات الظروف على الجميع في ضوء هذا الحدث وفي ضوء قصة "منصور الحفني" تاجر المخدرات المحكوم عليه بالإعدام فآلت الجزيرة للنجايحة، وقد بدأ الفيلم بداية موفقة حيث بدأت الصورة بظلام به بعض الأضواء ونقطة نور براقة مع أصوات متداخلة لشخصيات مختلفة جاءت مذكرة ببعض أحداث الجزء الأول من "الجزيرة" مثل صوت والد منصور "من وأنت صغير وأنا بجهزك تبقى الكبير"، حتى يصحو منصور على إثر ذلك الحلم مفزوعا في زنزانته. كما يمهد الفيلم لأحداثه القادمة وللثورة من خلال شخصية "رشدي بيه" لواء الشرطة الذي لم ير في اليوم التالي سوى احتفالا بعيد الشرطة، ليأتي الزلزال الذي يقلب كل الموازين ويغربل الأشياء أو يربكها أو يحلها فتقوم الثورة ويختلط الحابل بالنابل ويقوم رجال منصور الحفني بمهاجة السجن بالبلدوزرات.. هذا السجن الذي ضم أيضا عدوة "ناجح" من النجايحة، والذي يريد الثأر من منصور لقتل إخوته، ليشتبكا رغم سخونة الأحداث حولهما ويقتل ناجح لكن على يد رجل من "الرحالة" وهي حادثة تقدم لهؤلاء الذي يسارع كبيرهم تاجر السلاح "الشيخ جعفر" ( خالد صالح ) بالوشاية بأن منصور قاتله لإذكاء الوقيعة بين الطرفين وتأجيج الثأر. فهو لا يفعل شيئا دون تخطيط بعيد يستفيد منه باستخدام كل الأطراف وكل السبل وليّ المنطق كما يشاء هواه أو مصلحته التي لابد أن تكون مصلحة جماعته، وهو هنا يرمز بوضوح لتجار الدين والمتطرفين، وأراه يرمز بالأساس إلى "حسن الصباح" زعيم الحشاشين وبالتالي من على شاكلته حديثا كجماعة الإخوان المسلمين حيث يردد مقولات "حسن البنا" ويعتمد مبدأ الطاعة المطلقة لحد قتل النفس، فيصلي على المقتول ويعده شهيدا، وقد كتب دوره بإتقان مقنع وثراء فنجح في إدهاشنا كل مرة من دهائه وخسته. بعد هروب منصور يسعى لإرجاع حكم عائلته من جديد واستعادة الجزيرة وإقامة بيت العائلة بعد انهياره.. ولا تملك إلا أن تحترم هدفه وإن اختلفت معه، وإصراره الذي يحركه التزام أخلاقي برغم ما يمكن أن يقال عن تهمته وماضيه، وبرغم تشعب الأحداث وغزارتها وثراء الشخصيات فإن الأحداث يمكن أن تنحصر في مثلث يجمع جعفر الساعي للسلطة، ومنصور الساعي لإعادة مجد والده وجده وجزيرته، ورشدي الذي حبس في أحداث الثورة ثم قتلت زوجته وطفليه على يد الرحالة فأصر على الثأر منهم. يشتبك المثلث ليتوحد ضلعاه في القضاء على الضلع الثالث الذي اكتشف الجميع أنه الخطر الأكبر وهو جعفر، ربما كل من منصور ورشدي هناك ما يدينهما، بتجارة المخدرات والقتل لدى منصور، وأسلوب رشدي قبل الثورة، لكن كلاهما يفعل ما يؤمن به ولا يقارنان بعدو أكبر سعى لشراء الأرض من الجميع ليسيطر عليها وحده وأيضا خداع "الكبيرة" أو "كريمة وهي هند صبري التي تفهمه أخيرا فتأتي على لسانها لجعفر جملة هامة" أنت عايز تقلع أهل البلد جلاليبهم الصعيدي وتلبسهم جلاليب الرحالة"، فيتكاتف الجميع ضده في إشارة واضحة لثورة 30 يونيو. الفيلم ينتقد أداء الشرطة لكن لا يهاجمها وهي رؤية ناضجة بعكس من يختزل الفكرة في مهاجمة الثورة، فقد بين الفيلم بشكل واقعي استغلالها من الجميع وسلبيات وقتها فعرض ثورات مصطنعة لمنصور ورجاله مثلا منادين بشعارات الثورة وهاتفين بالسلمية بينما يحملون السلاح، وهي رؤية واقعية صارت تاريخية، ومما يسترعي الانتباه في الفيلم "الشعب" فمصلحته الضيقة بدت دائما المتحكمة في آرائه وتوجهاته واختياراته، وهو حق له لكن الحديث عن الأولويات والمبادىء لا ينبغي أن يصبح أسطورة، فقد جعلوا منصور كبيرهم لمجرد شرائه محصولهم ثم باعوه حينما وشى به جعفر ووعدهم بتوفير قوتهم، وباعوا أرضهم له أيضا لاحتياجهم. لكنهم على المدى الأبعد يكتشفون أن هذه النظرة الضيقة كانت ستضيعهم للأبد وتضيع الجزيرة، ومما يستدعي التوقف أيضا هذه الخلطة البشرية المعقدة التي أظهرتها الكتابة لمعظم الشخصيات وجمع التناقضات في نفوسهم لمعايير أخرى وتقلباتهم مع الظروف، فمنصور يحب كريمة لكنه قد يضحي بها إن اقتضت المصلحة العامة للجزيرة، ويتزوج غيرها مرارا رغم حبه العميق لها، وكريمة "هند صبري" تعشقه لكنها تعاديه وتؤلب الناس عليه لكرامة عائلتها، وصفية ( أروى جودة) تتزوجه لمصلحة العائلة والأخذ بالثأر، وابنه علي "أحمد مالك" الذي تميز في دوره المليء بالانفعالات الداخلية والخارجية، هذا الرقيق المحب لفتاة يبدأ يستجيب للواقع ويندمج فيه ويتغير معه حتى يمسك السلاح ويقتنع بأخذ ثأر عمه ويساعد والده، واللواء رشدي بعد ثقة مسرفة وعنجهية يذوق انكسارا بحكم الأزمة لتأتي أزمة مقتل أسرته تصحح في النهاية مساره مع عدة ضباط شرفاء. نجح الفيلم في بدايته بالأخص في جذب المشاهد بإيقاع سريع متدفق وحركة غزيرة للصورة وتطور سريع نوعا.. فيكفي بدئه بحدث الثورة أو التمهيد لها، أما مشاهد "الأكشن" التي كانت ضرورية فكانت كثيرة، وربما أكثر من اللازم فاستهلكت واستغرقت اهتمام الصورة دون غيرها، أما اللافت للنظر فكان التمثيل الذي برع فيه الراحل خالد صالح بشكل هادئ يثير الاستفزاز من الشخصية، والتي أضافت الأحداث لرسمها حينما تطرف نحو العداء بسهولة تجاه من قال أنه أحبها، وكذلك هند صبري التي جعلتنا نشعر بخفقة قلبها في عينيها القويتين وهي تنظر لمنصور، ونضال الشافعي في دور "فضل" الأخرس عم علي الذي أدى دوره بشكل واقعي مقنع أوصل فيه عمق عاطفته لعلي وطيبته، وأحمد مالك هذا الوجه الشاب الذي يثير اهتمامك في كيفية تحول الشخصية المسالمة الهادئة بوجودها في قلب الأحداث القاسية لشخص أكثر صلابة وتحملا للمسؤولية، فهذا الصراع من أجل الجزيرة لفت نظره لها ولانتمائه الجذري لها، وكذلك محمد عادل في دور"مظهر" بتعبيراته التي تكشف حيرته وتساؤلاته، وبالطبع خالد الصاوي الذي بالفعل أكاد أراه يتلبسه جن الدور فيصبح شخصا مختلفا بسمات تعبيرات الشخصية. أما الحوار الذي كتبه محمد دياب وشقيقاه شيرين وخالد دياب فكان نقطة التميز الأخرى، فقد أعطى ظلال الشخصيات دون مبالغة، وكان واقعيا ينفذ للداخل ولداخل الخارج أيضا.. فيرى بنظرة بعيدة ويعود ليقترب.