ثمة هاجس دائم لدي الأنظمة يدور حول الوعي الجمعي للشعوب، بهدف تشكيله وصياغته، بطريقة ما من شأنها أن تصبح تلك الشعوب قيد السيطرة، مما يسهل معه توجيهها لتحقيق ما تصبو إليه الأنظمة من أهداف، وما تطمح إليه من غايات، غير أن هذا الوعي يتشكل بالأساس وفق ما هو كائن، كونه نتاج الواقع الذي تتشابك فيه العلاقات، وتفرض فيه المشكلات تعاطيا معينا معه، وتتكون فيه الرؤى الآنية بارتباط وثيق مع تجارب الماضي وتطلعات المستقبل. ويرى (هيجل) أن الوعي كخاصية إنسانية هو تلك المعرفة التي تكون لكل شخص بصدد وجوده وأفعاله وأفكاره، كأن يكون الشخص واعيا ويتصرف طبقا للمعرفة التي تحركه والعيش بوعي الوجود، ويشير إلى أن الإنسان يتميز بازدواجية لكونه كائنا ذا عقل له وجود مزدوج، فهو يوجد على نفس شاكلة الأشياء الطبيعية؛ لكنه من جهة أخرى يوجد من أجل ذاته، يتأملها، يتمثلها ويفكر فيها، وهو لا يكوِّن فكرا سوى لأنه فاعلية تشكل وجود الأصل ذاته. ويرى مونيس بخضرة أن الوعي هو جملة من التصورات والأفكار المتنوعة، التي تحصلها الذات بذاتها وعن العالم الخارجي مما يجعلها في اتصال دائم معه. الوعي لا يحتمل العنف ولا يقبل الإكراه، وهو يستدعي براهينه ولا يقبل الانقياد من دون حجة ودليل، وقد بنى هوسرل نظريته في (منطق الوعي) على يقينيات راسخة في الوعي الجمعي للإنسان بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى النفسي، وقد تعامل معه كما يتم التعامل مع علم الأعداد في الحساب. وإذا كانت وظيفة الوعي الأساسية هي تقديم صورة حقيقية عن الواقع والذات،إلا أن الوعي الجمعي في مجمله يقوم على خلاف ذلك، فهو لا يستطيع استقبال كافة الرسائل على نحو صحيح، فهناك الكثير من المعلومات التي لا قبل له بتلقيها والتفاعل معها، ويرجع ذلك إلى طبيعة بنيته التي لا تتجاوب مع التفصيلات ولا تميل إلى التدقيق، أما القسم الذي يُسمح باستقباله، فغالبا مايكون ناقصا أو مشوها. يقول (جوستاف لوبون) – أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي- عن معنى الوعي الجمعي: إنه الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة. لذلك يبدو الوعي الجمعي- في كثير من الأحيان- مفتعلا وموجها، بل يبدو وكأنه قد خُلِّق معمليا لأداء وظيفة بعينها، وهو في مراحله المتتابعة لا يتغذي إلا على الأساطير والأباطيل أوأنصاف الحقائق على أفضل تقدير، كما يبدو مضادا للوعي الفردي، ومناهاضا له، وعاملا بشكل كبير على تقليصه، وتهميشه؛ إذ أن الوعي الفردي في طبيعة بنيته يكون ملاصقا لما هو كائن، ولا يمكن انتزاعه بالكلية نحو ماهو ممكن. لقد أثبت فرويد أن شخصية كل إنسان تتكون من سلسلة من العناصر البنيوية التي تتراوح بين الرغبة والنفور، وهي ناتجة عن ماضيه الذي يجعل "أناه" يصد بعض المعلومات، ويشوه أخرى. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد حالة التضاد بين كلا الوعيين، فإذا كان الوعي الفردي يتشبث بتحقيق رغبات الإنسان، وإشباع احتياجاته، فإن الوعي الجمعي يرغمه على قبول ما ينفر منه بدعوى أن هذا هو الممكن والمتاح، غير أن التحول مما هو كائن إلى ما هو ممكن لا يصبح مأمونا في تلك اللحظات التاريخية التي تشهد تحولات اجتماعية كبرى، حيث يتحول الممكن إلى استجابة كاملة لما هو كائن، بل إن ماهو ممكن يصبح ذا أفق مفتوح على تغييرات أوسع، وإذا كنا قد سلمنا ابتداء أن الوعي الجمعي قد يتشكل على نحو من الافتعال والتوجيه إلا أنه يتحول وفق هذه التفاعلات إلى كائن غير قابل للسيطرة أو الاحتواء، فهو قد وصل بدواع عديدة إلى مرحلة الانفلات الكامل والثورة العارمة. هنا يصبح الوعي الجمعي مؤسسا على الرفض لا القبول، جامحا لا سبيل لاحتوائه سوى بإرضائه وتقديم التنازلات، وربما تم استخدام الشعارات العمومية التي تهدف إلى تجاوز الموقف مرحليا، أو لتمرير ما لا يمكن مروره وفق مقولات لا يمكن مواجهتها أو دحضها بشكل مباشر أو آني، على سبيل المثال ما حدث في روسيا في أعقاب ثورة 1917، إذ كان من غيرالممكن تمرير كلمات ذات طابع اشتراكي، وإقناع الفلاحين بمزايا الاستغلال الجماعي الواسع للأرض، ووجوب التخلي عن الملكية الخاصة، ولكن ( لينين) صاغ، ببراعة شديدة كلمة سر لم تكن منتظرة نهائيا : الأرض للفلاحين. إنه مثال كلاسيكي لتحليل سوسيولوجي مؤسس على الوعي الممكن . ولا سبيل هنا إلى عودة الأمور لما هي عليه سوى العمل على تفتيت المجموع بإشعال النعرات والمطامع والمصالح الضيقة للجماعات والفئات، وذلك بالعمل على معرفة المقولات الفكرية الجوهرية لكل جماعة؛ بهدف تعظيم الاختلاف، وتقوية الشعور بالأحقية الكاملة والاستحقاق التام لاجتناء ثمار التحول الاجتماعي الحادث؛ وبطبيعة بنية الوعي الجمعي فإنه يكون ذو قابلية عالية للارتداد إذ تحكمه المخاوف والأوهام، بأكثر من دوافع الرغبة في صنع واقع مغاير. يبدو لنا الآن أن الإصرار على تشكيل الوعي الجمعي وفق تلك التشوهات الحادثة لا يهدف إلا إلى مفارقة تلك الحالة التي تقتضي – دائما- التثبت من الوقائع وتبينها وتمحيصها، بهدف التعامل معها على نحو متعقل؛ إذ يسير الوعي الجمعي غالبا تبعا للعواطف العمياء التي تتنازعها الأهواء، وتجري بها رياح هوجاء نحو هاوية سحيقة، وإذا تمثلنا تجارب التاريخ نجد أن الأخطاء تتكرر وربما بنفس الكيفية، وكأنه لا تراكم للمعرفة يمكن الاعتماد عليه ولا سبيل للإبداع يمكن تلمسه؛ والثابت أن الأنظمة لا ترى سبيلا إلى الوصول إلى مراميها سوى خداع الجماهير وتشويه وعيها الجمعي، وهي في حالة تضاد دائم مع ما تطمح إليه تلك الجماهير من معرفة وتبصر بحقائق الأمور، ورغبة حقيقية في حياة تقوم على أساس من الكفاية والكرامة، فليس إلا الدوران في هذه الحلقة المفرغة، فلا الجماهير تسلو حريتها ولا الأنظمة تنكشف أو تتبدل.