رانيا علواني: ما حدث في واقعة الطفل يوسف تقصير.. والسيفتي أولى من أي شيء    تأجيل محاكمة 68 متهمًا في قضية خلية التجمع الإرهابية    أقرأ تختتم دوراتها الأولى بتتويج نسرين أبولويفة بلقب «قارئ العام»    تحذيرهام: «علاج الأنيميا قبل الحمل ضرورة لحماية طفلك»    "الراجل هيسيبنا ويمشي".. ننشر تفاصيل مشاجرة نائب ومرشح إعادة أثناء زيارة وزير النقل بقنا    إحلال وتجديد خط مياه الشرب الرئيسي بقرية الضوافرة ببلطيم كفرالشيخ | صور    للمرة الثانية خلال يوم.. زلزال بقوة 6.3 درجات يضرب اليونان    قطر وبنجلاديش تبحثان تعزيز التعاون المشترك    زيادة المعاشات ودمغة المحاماة.. ننشر النتائج الرسمية للجمعية العمومية لنقابة المحامين    قلت لعائلتي تعالوا لمباراة برايتون لتوديع الجمهور، محمد صلاح يستعد للرحيل عن ليفربول    جامعة كفر الشيخ تنظم مسابقتي «المراسل التلفزيوني» و«الأفلام القصيرة» لاكتشاف المواهب| صور    محافظ الإسماعيلية يتابع تجهيزات تشغيل مركز تجارى لدعم الصناعة المحلية    رحمة حسن تكشف عن خطأ طبي يهددها بعاهة دائمة ويبعدها عن الأضواء (صورة)    محمد فراج وأحمد خالد صالح.. أمسية فنية مميزة في العرض الخاص ل «الست» بحضور كبار النجوم| صور    إصلاح كسر مفاجئ بخط مياه بمنطقة تقسيم الشرطة ليلا بكفر الشيخ    «الصحة» توضح: لماذا يزداد جفاف العين بالشتاء؟.. ونصائح بسيطة لحماية عينيك    مجدي مرشد: لا مساس بسيادة مصر ولا قبول بمحاولات تهجير الفلسطينيين    الفيلم التونسي "سماء بلا أرض" يفوز بالنجمة الذهبية لمهرجان مراكش (فيديو)    مصدر أمني ينفي إضراب نزلاء مركز إصلاح وتأهيل عن الطعام لتعرضهم للانتهاكاتً    المشدد 3 سنوات لشاب لإتجاره في الحشيش وحيازة سلاح أبيض بالخصوص    برودة الفجر ودفء الظهيرة..حالة الطقس اليوم الأحد 7-12-2025 في بني سويف    بدون أي دلائل أو براهين واستندت لتحريات "الأمن" ..حكم بإعدام معتقل والمؤبد لاثنين آخرين بقضية جبهة النصرة    وزير الاتصالات: رواتب العمل الحر في التكنولوجيا قد تصل ل100 ألف دولار.. والمستقبل لمن يطوّر مهاراته    محسن صالح: توقيت فرح أحمد حمدى غلط.. والزواج يحتاج ابتعاد 6 أشهر عن الملاعب    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    هشام نصر: هذا موقفنا بشأن الأرض البديلة.. وأوشكنا على تأسيس شركة الكرة    جورج كلونى يكشف علاقة زوجته أمل علم الدين بالإخوان المسلمين ودورها في صياغة دستور 2012    الإمام الأكبر يوجِّه بترميم 100 أسطوانة نادرة «لم تُذع من قبل»للشيخ محمد رفعت    أصل الحكاية| ملامح من زمنٍ بعيد.. رأس فتاة تكشف جمال النحت الخشبي بالدولة الوسطى    أصل الحكاية| «أمنحتب الثالث» ووالدته يعودان إلى الحياة عبر سحر التكنولوجيا    AlphaX وM squared يعلنان انطلاق سباق قدرة التحمل في المتحف المصري الكبير    أسعار الذهب اليوم الأحد 7-12-2025 في بني سويف    تموين الغربية يضبط 28 كيلو دواجن غير صالحة للاستهلاك    أخبار × 24 ساعة.. متى يعمل المونوريل فى مصر؟    أول صورة لضحية زوجها بعد 4 أشهر من الزفاف في المنوفية    هيجسيث: الولايات المتحدة لن تسمح لحلفائها بعد الآن بالتدخل في شؤونها    9 قتلى و10 جرحى فى حادث انقلاب حافلة بولاية بنى عباس جنوب غرب الجزائر    الاتحاد الأوروبى: سنركز على الوحدة فى مواجهة النزاعات العالمية    عمرو أديب بعد تعادل المنتخب مع الإمارات: "هنفضل عايشين في حسبة برمة"    آخر مباراة ل ألبا وبوسكيتس أمام مولر.. إنتر ميامي بطل الدوري الأمريكي لأول مرة في تاريخه    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الحكومة البريطانية تبدأ مراجعة دقيقة لأنشطة جماعة الإخوان.. ماسك يدعو إلى إلغاء الاتحاد الأوروبى.. تقارير تكشف علاقة سارة نتنياهو باختيار رئيس الموساد الجديد    الرئيس السوري: إسرائيل نفذت أكثر من ألف غارة جوية و400 توغل بري على سوريا منذ ديسمبر الماضي    اللجنة القضائية المشرفة على الجمعية العمومية لنقابة المحامين تعلن الموافقة على زيادة المعاشات ورفض الميزانية    أسوان والبنية التحتية والدولار    وزير الاتصالات: تجديد رخص المركبات أصبح إلكترونيًا بالكامل دون أي مستند ورقي    نقيب المسعفين: السيارة وصلت السباح يوسف خلال 4 دقائق للمستشفى    الحق قدم| مرتبات تبدأ من 13 ألف جنيه.. التخصصات المطلوبة ل 1000 وظيفة بالضبعة النووية    محمد متولي: موقف الزمالك سليم في أزمة بنتايج وليس من حقه فسخ العقد    خالد الجندي: الفتوحات الإسلامية كانت دفاعا عن الحرية الإنسانية    وكيل وزارة الصحة بكفر الشيخ يتفقد مستشفى دسوق العام    الأزهري يتفقد فعاليات اللجنة الثانية في اليوم الأول من المسابقة العالمية للقرآن الكريم    تقرير عن ندوة اللجنة الأسقفية للعدالة والسلام حول وثيقة نوسترا إيتاتي    الاتصالات: 22 وحدة تقدم خدمات التشخيص عن بُعد بمستشفى الصدر في المنصورة    مفتي الجمهورية: التفاف الأُسر حول «دولة التلاوة» يؤكد عدم انعزال القرآن عن حياة المصريين    وزير الصحة يشهد انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها ال32    مواقيت الصلاه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا..... اعرف صلاتك بدقه    السيسي يوجه بمحاسبة عاجلة تجاه أي انفلات أخلاقي بالمدارس    الصحة: فحص أكثر من 7 ملابين طالب بمبادرة الكشف الأنيميا والسمنة والتقزم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تساؤلات مجدية‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 01 - 2011

تروي الحكاية الشعبية تصورا افتراضيا أنه في سالف الزمان كانت هناك سلسلة معدنية متدلية من السماء‏,‏ ويمتد البناء السردي للحكاية ليكشف أن هذه السلسلة المتدلية من السماء‏,‏ كانت مقصدا يتجه إليه المحتاجون‏,‏ حيث يستطيع كل منهم عن طريقها إيصال شكواه إلي السماء‏,‏ وبعد أن تطرح الحكاية وظيفة هذه السلسلة بوجودها المحسوس‏,‏ يتطور سياق الحكاية ليشخص تفاصيل كيفية استخدامها‏,‏ إذ يذهب الشاكي إليها فيعرض شكواه‏,‏ فإن كان محقا فيما طرحه‏,‏ تتدلي السلسلة فوق رأسه‏,‏ فيهزها ثم يغادر مسرورا‏,‏ وإن كان ظالما‏,‏ أو كان ما يطرحه باطلا‏,‏ فإن السلسلة ترتفع إلي السماء بحيث لا تصل إليها يداه‏,‏ فيذهب خاسئا مدحورا‏.‏ لا شك أن ثمة دلالة مستترة خلف ذلك التصور الافتراضي الذي تطرحه الحكاية الشعبية‏.‏
قد يكون تطلعا إلي الكشف العلني عن مدي صدق علاقة الإنسان بداخله وخارجه‏,‏ أو رفعا لأي التباسات‏,‏ إعتاقا من عماء سيطرة فكرة خاطئة‏,‏ تضلل فهم الإنسان لأمر قد يراه استحقاقا له‏,‏ ثم تخثرت هذه الفكرة وتجمدت حتي أصبحت معتقدا‏,‏ في حين أنها علي الحقيقة تجافي منطق العدل والاستحقاق‏,‏ وبالطبع عندما تساندها قوة تصبح سلطة الخطأ‏,‏ أو قد يكون فضحا لادعاء كاذب مقصود‏,‏ يستبيح إهدار حقوق الآخرين‏,‏ ويستعصي علي صاحب الحق إثباته بالبرهان‏.‏ وبالتوازي مع تلك التفسيرات‏,‏ قد يتبدي أن ذلك التصور الافتراضي للحكاية يستهدف إنارة الوجود الإنساني بحقيقة أنه ليس ثمة خيار من حتمية احترام الحدود‏,‏ تصديا لهؤلاء الذين يتصورون أنهم يمتلكون إرادة مطلقة في استباحة الحدود‏,‏ وانتهاك حقوق الآخرين‏,‏ وذلك بتعزيز النمو الداخلي للإنسان‏,‏ واستنهاض ضميره الفردي في مواجهة إغراءات أطماعه بتخطيها وعيا بقاعدة الحقوق‏,‏ بوصفها ركيزة عدالة الاستحقاق في الممارسات الاجتماعية‏,‏ ودعامة التأسيس للتواصل الاجتماعي والتعايش‏,‏ وذلك ما يتيح للفرد أن يحدد مصيره بنفسه في الحياة‏,‏ دون أن يسلبه منه الآخرون‏.‏
تستطرد الحكاية الشعبية‏,‏ فتسرد واقعة مفادها أنه يوما ما وضع أحد الأشخاص مبلغا من المال لدي صديق له علي سبيل الأمانة‏,‏ وبعد مدة طويلة‏,‏ أمسي صاحب المال في حاجة إلي استعادته‏,‏ فذهب ليسترده من صديقه‏,‏ بيد أن الصديق المؤتمن يبدو أن متاع الدنيا قد استقطبه‏,‏ وسكنه الشغف بالاستحواذ علي المال‏,‏ فاحتكر غاية وجوده‏,‏ وضرب حول عقله حصارا أنساه المحرم والممتنع‏,‏ ونفي عن إدراكه معني القيمة‏,‏ عندئذ انهارت كل خطوط دفاعه ومقاومته أمام إغراءات رغبة الاستحواذ علي مال صديقه نهبا لحقه‏,‏ واغتصابا له‏,‏ فمارس الاستبداد المتنكر بالبراءة‏,‏ وادعي أنه قد أعاد إليه المال منذ زمن طويل‏.‏ كان ذلك إقرارا بقبوله دنس سلوكه‏,‏ وتخليا عن الاعتصام بمقدسات مجتمعه والتضحية بها‏,‏ وتبدي له أنه حسم انتصاره بقراره الذي فرضه‏,‏ رغم ما يفتقر إليه من شرعية‏,‏ ودون أدني مراجعة لما يحكم العلاقات الاجتماعية علي صعيد المقدسات والقيم‏.‏ واجه صاحب المال المغتصب موقف صديقه بتنطعه‏,‏ وقد تمزقت كل أقنعته وتساقطت بذلك السلوك المباشر العاري الذي يهدر العدالة والاستحقاق‏,‏ ففجعته تلك القطيعة المطلقة لاستحالتها العاطفية والعقلانية معا التي تغلق أفق علاقتهما‏,‏ فزلزلت كيانه‏,‏ وحاول أن يجد أثرا من بقايا علاقتهما‏,‏ فإذ بصديقه المغتصب يستمر ماضيا في تصالبه وادعائه‏,‏ بما لا يسمح للمستقبل أن يجمعهما ثانية‏,‏ ممارسا طغيانا استقر في خانة تضاده مع كل القيم‏,‏ فتصحر وجدانه‏,‏ وراح يدمر معني العدالة والإنصاف‏,‏ محطما العقل والعاطفة‏,‏ بوصفهما مسلمات لأحكام مقررة تحفظ للتواصل الاجتماعي استمراره‏,‏ وتسجيل الحياة بدونه‏.‏
عند هذا المفصل من الواقعة تشكل الخطر المداهم للحق‏,‏ وأصبح رهان الانتصار تحقيق العدل بكشف الحقيقة‏,‏ استنجادا من ذلك الإنكار الذي يقصي الحق بالضلال‏,‏ لذا فرض منطق الواقعة العودة إلي الخلف‏,‏ استنادا إلي سياق التأسيس الاجتماعي الذي طرحته الحكاية الشعبية في بدايتها عن سلسلة العدل التي تتدلي من السماء‏,‏ بوصفها معيارا مقترنا بكشف الحقيقة‏,‏ كما فرض منطق الواقعة أيضا التقدم إلي الأمام لمواجهة الضلال بالاحتكام إلي قوانين المجتمع الخاصة‏,‏ وآليات اشتغالها بوصفها سلطة ضبط الواقع علي أساس المبادئ والأهداف المجدية للسلامة الاجتماعية واستقرارها‏,‏ في مواجهة الانفلات المنتج للفوضي‏,‏ إذ حين تصبح الحرية سالبة‏,‏ ضارة بجنوحها‏,‏ ومولدة للخلل الاجتماعي‏,‏ وبتأثيراتها تغدو الحقوق غير مصونة‏,‏ والعدالة مهانة‏,‏ لابد من التطلع إلي القانون مخرجا‏.‏ صحيح أن صاحب المال أصر علي ذهابهما معا إلي أسفل السلسلة‏,‏ ليعرضا هناك طرحهما‏,‏ لكن الصحيح أنه أمهل صديقه المغتصب يوما قبل الذهاب إلي السلسلة‏,‏ أملا في توبته والرجوع عن ادعائه‏,‏ ربما انطلاقا من إيمانه بأن جموح سلوك الفرد وجنوحه‏,‏ قد يتأتي تصويبهما عن طريق العقل الذي يظل بقدرته علي المراجعة كفيلا بتقويم ذلك السلوك وتصحيحه‏,‏ وربما أن هزيمة صديقه المغتصب بادانته‏,‏ قد لا تشكل أهمية بالنسبة إليه‏,‏ بقدر ما يعنيه اشتقاق إمكانية خروج المغتصب من مأزقه‏,‏ بإدراكه الذاتي لقيمة العدالة والاستحقاق طريقا إلي التفاعل الاجتماعي المثمر في مجالات ممارساته كافة‏.‏ لكن اللغز المثير للدهشة‏,‏ أن المغتصب قد تقبل فكرة الذهاب إلي السلسلة‏,‏ دون أن ينفي إمكانية مثوله تحتها‏.‏ تري كيف له أن ينجو من المصير المتناقض بذهابه‏,‏ متعاميا عن حقيقة فعلته؟ تراه هل يصدق في الالتزام بالذهاب؟
راح المغتصب يمعن في التفكير بحثا عن الكيفية التي يكون بها مثوله ممكنا‏,‏ وفي الوقت نفسه لا تعلق به جريمته بأن تغيب عنه فعلته‏,‏ مع أن الواقع يشهد علي صحة الواقعة‏,‏ وذلك ليؤكد براءته المعلنة‏,‏ وخلاصه من تورطه في مأزقه‏.‏ يقال انه لا أمل في شفاء مرض صنعه المريض بنفسه‏,‏ إذ قد خلخل شرخ الوعي لديه الروابط جميعها‏,‏ إلا رابطة الاستحواذ غير المشروع‏,‏ كما زعزع أيضا كل ما يتيح له التفتح‏,‏ ودفع إليه مصفوفة من الحيل والألاعيب ليختار منها ما يخفيه عن فعلته‏,‏ باجراءات تحريفية تستند إلي مغالطات متفننة علي صعيد السلوك‏,‏ احتيالا علي الحق‏,‏ وعبثا بدلالة العدالة‏,‏ حيث عزم علي أن يحضر عصا غليظة‏,‏ يحفر جوفها ثم يضع داخل ذلك الفراغ الأموال المغتصبة‏,‏ ويخفي المعالم عن الظن والارتياب‏,‏ ثم بحيلة أخري يتظاهر باعطاء العصا إلي صديقه صاحب الأموال الذي لا يعلم أن بداخلها حقه المسلوب‏,‏ وبذلك تصور المغتصب أنه سوف يوهم السلسلة التي تتدلي من السماء باعطائه الأموال لصاحبها‏,‏ وبالطبع سيسترد عصاه وفقا لما أعده لمسار حيله التي تنسف تجليات الحقوق‏,‏ في ضوء أنها استجابة شكلية تتبدي‏,‏ ناقلا علي مستوي الواقع الإجرائي لصحة المنطق الشكلي الإجرائي لمفهوم البرهان علي إعطائه الأموال لصاحبها‏,‏ وإن كانت علي الحقيقة محض مشروع لانحسار الحق‏,‏ وذوبانه في متاهات الحيل والخداع‏.‏
في اليوم المقرر ذهب الرجلان معا إلي أسفل السلسلة‏,‏ فبدأ المغتصب الماكر كمينه الذي خطط له‏,‏ بأن أعطي عصاه لصديقه صاحب الأموال‏,‏ ليجره إلي سياق إنجاز برهانه علي استرجاع نقوده‏,‏ وطلب إليه أن يمسكها له حتي يذهب إلي أسفل السلسلة‏,‏ ليقسم علي صدق إعادته النقود إليه‏,‏ مؤكدا فوزه بالبراءة من اتهامه‏,‏ عندما تشهد السلسلة علي صدقه‏,‏ حينما تتدلي فوق رأسه‏,‏ واستمر يضخم في ثقته ببراءته ويسوق لها وكأنها هي التي دفعته إلي المثول أسفل السلسلة‏.‏ وأمام حشد من الناس اتجه المغتصب نحو السلسلة‏,‏ معتمدا علي نجاح اختراقه لصديقه في قضيته بالخداع‏,‏ والتلاعب في تفسير مدلول الالتباس الشكلي في ثنائية حيلته التي تتضمن السلب والايجاب معا‏,‏ باعطائه العصا التي بداخلها النقود إلي صديقه صاحب الأموال‏,‏ من دون أن يعرف ما بداخلها‏,‏ لذا وقف المغتصب أسفل السلسلة بثقة‏,‏ وهزها بيديه‏,‏ مناجيا‏,‏ داعيا وفقا لتمام الطقوس وصاح معلنا أنه أعطي صديقه نقوده‏,‏ بل طالب مجاهرا أن تتجلي براءته في حضور جميع الناس‏,‏ ليوقنوا‏,‏ ويقروا أن مطلب صديقه يعد زورا‏,‏ وبطلانا‏,‏ عندئذ تدلت السلسلة إلي فوق رأسه فهزها مسرورا‏,‏ ثم عاد المغتصب الماكر المحتال فأخذ العصا من صديقه المظلوم‏,‏ وطلب إليه أن يذهب بدوره ويقسم أنه لم يأخذ أمواله‏.‏ مضي صاحب الحق‏,‏ وأقسم أنه لم يتسلم نقوده‏,‏ فإذا بالسلسلة ترتفع ولم تستطع أن يطولها بيديه‏,‏ وذلك يعني إقرار بطلان ما يدعيه‏.‏ وقف الرجل مصعوقا تحت دهشة لا تصدق الموقف غير المتوقع الذي يحاصره‏,‏ شقيا يعجزه‏,‏ وقد ارتجت قناعاته‏.‏ وتصمت الحكاية الشعبية عن كشف المزيد عن تلك الواقعة‏,‏ لكنها تنتهي مشيرة إلي أنه منذ ذلك الوقت‏,‏ وبسبب مكر الناس وخداعهم ارتفعت السلسلة‏,‏ وطويت نهائيا‏.‏
إن هذه الحكاية الشعبية سلسلة العدل‏,‏ من الموروث الحكائي الفارسي‏,‏ قد صاغ الوجدان الشعبي نسقها الافتراضي الأحادي الحدث‏,‏ متضمنا أبعادا متعددة‏,‏ منها الديني‏,‏ والاجتماعي‏,‏ والنفسي‏,‏ استمدها ذلك الوجدان من دهشته‏,‏ وقلقه في سياق تأملاته لما حوله‏,‏ فغلف تلك التساؤلات في الحدث الافتراضي الذي سردته الحكاية‏.‏ صحيح أن الحكاية انتهت بالتوقف عن كشف المزيد عن مصير صاحب الحق وصديقه المخادع‏,‏ ثم تجلت نغمة خروجها إلي نهايتها‏,‏ بمقولة أنه أمام مكر الناس وخداعهم ارتفعت السلسلة وطويت نهائيا‏,‏ لكن الصحيح أنه ليست هناك علي الحقيقة سلسلة تتدلي من السماء‏,‏ إذ ذلك محض استعارة مجازية افتراضية‏,‏ تجليا للضمير الفردي‏,‏ فتتيح تشخيص إمكانية عرض مواجهة الإنسان لذاته بأفعاله وسلوكه‏,‏ ممارسا تقييمها في ضوء منظومة قيم مجتمعه ومعتقداته‏,‏ التي تتجسد في حشود الناس الذين يحيطون به ويراقبونه‏.‏ إن الحكاية تطرح تساؤلات كثيرة مستبطنة مغلفة في الحدث‏,‏ ولا خلاف أن استظهار هذه التساؤلات المطوية‏,‏ تشحذ إمكانية الناس في احتواء الأخطار المحيطة بهم بالوعي الكاشف‏,‏ والإدراك القادر علي مقاومتها‏.‏ ولأن الحكاية تجسد الشر حينما يصبح مطلقا‏,‏ فيتجاوز حدود الدين‏,‏ والقيم العامة‏,‏ والأخلاق‏,‏ ممارسا الخداع والتلاعب والاحتيال‏,‏ عندئذ يغدو جموحا مبددا لمصالح الناس‏,‏ مدمرا لقوانين التعايش المجتمعي الآمن كافة‏,‏ لذا فإن تساؤلات الحكاية تتجلي في إشارتها إلي مخاطر الشر‏,‏ وأعراضه التي تكشف عنه‏.‏ وعندما نقرأ الحكاية بمنظور دلالاتها‏,‏ تبرز أمامنا تلك التساؤلات‏:‏ تري كيف يمكن مواجهة مكر الناس وخداعهم؟ تري حين تصبح الحرية سلبية ضارة بجنوجها‏,‏ مولدة للخلل الاجتماعي‏,‏ أليس من المحتم التطلع إلي القانون؟ هل يمكن ربط الإيمان الديني بهدف شخصي؟ تري هل يمكن أن يغفل الناس عن الانتباه للشر حين يتبدي واقعا مدمرا؟ تري هل عندما يتبدي الشر أفعي تتخفي في أحضان أية علاقة‏,‏ أليس علي الناس أن يفكروا في مقاومة هذا الشر خارج حدود تلك العلاقة‏,‏ تحرزا من الاختراق؟ أليست الاختراقات تعطل الفهم‏,‏ وتزيد آليات الانغلاق علي ملكه الحكم علي الأمور؟
صحيح أنها تساؤلات من حكاية قديمة‏,‏ لكن الصحيح كذلك أنها تساؤلات مازالت مجدية‏,‏ إذ قوي المطلق المتربصة بنا‏,‏ مازالت تمارس التضليل‏,‏ والتلاعب‏,‏ والاحتيال‏,‏ يلازمه هدف تفتيت التعايش المجتمعي الآمن‏,‏ بممارسة الاختراقات‏,‏ وتسويق التضاد بين الجميع‏,‏ توليدا للخلل الاجتماعي‏,‏ وتثبيتا لمركزيتها باستلابنا حق وجودنا‏,‏ إذعانا لسلطة قوي الشر المطلق المجرد من أية قيمة‏,‏ التي لا يقودها سوي الاصرار علي الاستحواذ وفرض الهيمنة‏.‏

المزيد من مقالات د.فوزي فهمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.