- أهل الثقافة لا يروق لهم الفن الفطري - حجرتي المهدمة لا تسع منحوتات والدي - أبي لم يشغله المال والشهرة.. والإنسان قضيته الأساسية لم يعرف القراءة والكتابة، لكنه عبر عن أعمق وأرق معاني الحياة بمنحوتاته البريئة النقية، المسكونه بالقلق والخوف والشجن الأبدي، ولم يلتحق بمعاهد الفنون الجميلة أو غيرها من المدارس الفنية إلا أنه استطاع أن يصل الى أعماق الفن بفطرته وبدائيته، فجاءت أعماله حره منطلقة، لم يقيدها علم مكتسب، ولم تفسدها رواسب المدن الصناعية المزدحمة. هو النحات محمود اللبان، أحد رواد مدرسة الفن الفطري، أو بحسب تعبير الشاعر الكبير أبوللينير أحد بدائيو العصر الحديث. كان يسكن بحارة حوش قدم بمنطقة الغورية، ويعمل بائعاً للبن ولذلك سمي باللبان. اكتشفه الكاتب والمثقف الكبير محمد جاد الرب في أواخر الستينيات، حين شاهد بعض تماثيله التي صنعها بتلقائيته وعفويته المعهوده، وهنا كانت بداية اللبان الفنية، إذ ساعده جاد الرب على التواجد في الساحة الفنية التشكيلية. حين ذهبنا إلى الحارة الشهيرة لمقابلة نجله "رمضان اللبان" لإجراء لقاء معه عن والده ومشاهدة ما تبقى من تماثيله، سمعنا الكثير من الحكايات عن بساطة هذا الفنان الفطري، وفنه الرفيع واحتفاء الأجانب به، في مقابل التهميش والتجاهل الذي عانى منه في بلده، حتى وصلنا إلى منزل "اللبان الابن" أو بالأحرى حجرته في الدور الأرضي. وعندما أخبرنا "العم رمضان" عن رغبتنا في إجراء حوار معه عن والده، أحضر سلم خشبي، وصعد عليه بخفه بالغة، ليأتي بتماثيل الفنان الراحل من السندرة، انتابنا الحزن حين شاهدناه يزيح التراب الكثيف من فوق الوجوه التي برع والده في نحتها، ويليملم أشلاء التماثيل المحطمه، حتى أن أحد أصدقائي قال بغضب "ازاي يعمل في منحوتات ابوه كده، وازاي يحطها في المكان ده!"، لكنه لم يكن يدرك أن العم رمضان لم يملك سوى غرفه معيشه آيله للسقوط. بفخر ممزوج بحزن تحدث ابن الفنان الكبير عن أعمال والده المتبقية "هذا التمثال عبارة عن سجن، جعل اللبان من النسر الجمهوري سجناً وبداخله أحد المقهورين، والتمثال بشكل عام يرمز الى حكم العسكر، وفي تلك الفترة نحت أبي الكثير من التماثيل التي تنتقد الحكم العسكري وتقييد الحريات، لأنه كان قريب من الثوار الحقيقيين "الشيخ امام، أحمد فؤاد نجم، الفنان التشكيلي محمد علي" حيث كانوا يعيشون معاً في حارة خوش قدم. ويضيف "اللبان": والدي كان شديد البساطة ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان بارعاً في النحت، كنت أرى الأجانب منبهرين بأعماله، وكانت أمامه فرص كثيرة للظهور والانتشار، إلا أنه ظل متمسكاً بالحارة حتى وفاته، واكتفى ببعض الأموال القليله التي كان يحصل عليها بعد اقامته لأحد المعارض، وفي الحقيقة لم يكن أبي يهتم بالمال مطلقاً ولم يشغله في يوم من الأيام رغم أنه كان فقيراً، لكن قضيته كانت "الإنسان". ويتابع: أبي لم يأخذ حقه، لأن القائمين على الفن والثقافة في مصر لا يروق لهم الفن الفطري الحر المنطلق بل يفضلون الفن المقيد المحدود، ولم يلهث "محمود اللبان" يوماً وراء المال أو الشهرة، بل كان يعمل في صمت شديد وبلا ضجيج يزعجه ويزيف أعماله، فانسابت أعماله من أعماق نقية شفافه لتعبر عن أصدق المعاني الإنسانية. بمجرد سؤالنا العم رمضان عن علاقة والده بالشيخ امام، أحضر على الفور طاقية ونضارة الشيخ، إذ يحتفظ بهما بجانب منحوتات والده، وصمم رمضان أن نصوره وهو مرتديا النضارة والطاقية، وقال بفخر شديد: أنا فخور اني ابن محمود اللبان وفخور ان ابويا كان صديق للشيخ امام ونجم وفخور اني من أبناء الحواري، فالحارة التي تنجب مثل هؤلاء الفنانون الأنقياء، تستحق أن نفتخر بها". ورث "رمضان" موهبة النحت إلا أنه عندما ينظر الى تماثيل والده المغبره والمحطمة والتي لم يجد لها مكاناً في حجرته المهدمه، ينتابه الاحباط، ويحاول أن يلقي بموهبته وراء ظهره المحمل بأعباء المعيشة.