لا خلاف على أهمية تنمية منطقة قناة السويس طبقا للمشروع الذي تم تدشينه ببدء حفر قناة موازية تنتهي بعد عام تساعد على زيادة استيعاب الناقلات الي تستخدم هذا الممر الحيوي بالنسبة للتجارة العالمية، وتضاعف من دخل القناة سنويا بزيادة عدد الناقلات التي تمر، فضلا عن نوعية المشروعات الاستثمارية الهائلة المقرر إقامتها والتي من شأنها أن تجعل منطقة قناة السويس إقليما متميزا يثير غيرة أقاليم مصر الأخرى. ولقد تكفل كثير من الكتاب بتعظيم المشروع والتبشير بأهميته ومقارنته بمشروعات التنمية الكبرى التي شهدتها مصر ابتداء من بناء خزان أسوان (1902). لكن ما يلفت الانتباه ذلك الغموض الذي يكتنف الشروط القانونية بشأن التعاقد مع مختلف الشركات المستثمرة، ولماذا تتحفظ لجنة الفتوى بمجلس الدولة على الشروط الواردة لها بشأن العقد والقول إن ما تقدمت به لجنة المشروع عبارة عن "صورة ضوئية من مشروع عقد غير مبين به أطراف التعاقد ومدة التعاقد والقوانين الحاكمة له (راجع جريدة الشروق 7 أغسطس الجاري)، ولماذا النص على سرية المستندات المصاحبة للتعاقد.. ولماذا توصف مصر في العقد باسم "العميل/الزبون" وتوصف الشركات بالطرف الاستشاري. صحيح أنه لا يوجد مجلس تشريعي لدينا الآن (مجلس النواب) الذي كان سيقوم بمناقشة المشروع لإقراره وأن الرئيس له صلاحيات التشريع حتى يتم انتخاب المجلس المختص، لكن كان من الممكن طرح المشروع للمناقشة "المجتمعية" بمعرفة خبراء الاقتصاد والسياسة والاستراتيجية من باب الاحتياط، ذلك أن فكرة المشروع لم تأت من الإدارة المصرية وإنما جاءت من الخارج وهذا ما يوجب الحذر، لأن التاريخ علمنا أن الفكرة التي تأتي لمصر من الخارج تكون في صالح صاحبها وهنا يتعين البحث عن صاحب الفكرة وانتماءاته وارتباطاته والقوى الي يعبر عنها أو التي تختفي وراءه. فمثلا لقد عرضت فرنسا مشروع حفر قناة السويس على محمد علي باشا والي مصر (1805-1849) لكنه رفضه قائلا: "لا أريد بوسفورا في مصر"، وتلك كانت إشارة لمضيق البوسفور والدردنيل الذي تطل عليه تركيا (الدولة العثمانية آنذاك) وأوقعها في مشكلات مع النمسا وروسيا آنذاك، وطلب محمد علي مد خط سكك حديدية داخل الأراضي المصرية لكن بريطانيا صاحبة خبرة السكك الحديدية عالميا آنذاك رفضت تلبية رغبة محمد علي لسبب بسيط ألا وهو أن إقامة خطوط سكك حديدة في داخل مصر من شأنه أن يربط بسهولة بين مناطق المادة الخام والانتاج والأسواق، وهذا لم يكن في صالح إنجلترا الي كانت تنظر بقلق شديد لمشروعات التنمية التي يقوم بها محمد علي. صحيح أن إنجلترا عادت ووافقت على المشروع في عهد عباس باشا الأول ولكن بعد أن نجحت في تعطيل تنمية مصر بمقتضى تسوية لندن 1840 كما هو معروف. وفي هذا الخصوص ينبغي أن نتذكر أن إسرائيل طالبت مصر في مباحثات كامب ديفيد (سبتمبر 1978) بتعمير سيناء ومدن القنال على أساس ان تعمير هذه المناطق سوف يحول دون أن تفكر مصر في الهجوم عليها خاصة وأن جمال عبد الناصر كان يرفض إعادة تعمير ما دمره عدوان 1967 ففهمت إسرائيل من هذا أن عبد الناصر لا بد وأن يشن هجوما عليها، أي أن التعمير كان في صالح إسرائيل أساسا. ومن ناحية أخرى قرأنا أن الشركات الاستثمارية في المنطقة لن تتملك أراضي المشروع ولكن يكون لها حق الانتفاع، وتلك علاقة غير مريحة وفي صالح الاستتثمارات وخاصة الأجنبية مثل مشروع مترو الأنفاق الذي أعطته إدارة مبارك لشركة فرنسية بحق الانتفاع مقابل ضريبة سنوية تدفعها للخزينة المصرية، وللشركة أن تتصرف كما يحلو لها بعد ذلك بما يضمن لها الربح المناسب، وكأننا نعود إلى عصر الامتيازات الأجنبية التي فرضتها أوروبا على الدولة العثمانية وولاياتها في القرن السادس عشر (1535). وعلى هذا ينبغي التخلي عن مبدأ تقديم حسن النية في مثل هذه الموضوعات.. إذ ما الذي يدفع دولة ما أو مجموعة شركات لتقديم مثل هذا المشروع، إلا إذا كانت لها فيه مصلحة مضمونة.. أم ترى أن المشروع جاء حبا في مصر ومن أجل سواد عيونها.؟؟. إذا لم نضع مثل هذه الاعتبارات موضع الاهتمام عند السماح بمثل هذا المشروع العظيم فإنني أخشى أن يأتي يوم نعض إصبعنا ندما على ما فعلنا ونردد مقولة الخديو إسماعيل الذي انزعج لدى إطلاعه على شروط امتياز حفر قناة السويس وقال: أريد أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة" حتى جاء عبد الناصر وحقق ما كان يتمناه الخديو إسماعيل.