غزة ليست اصغر حجما وعددا من قطر، كما أن دبي ليست أكثر في مواردها من غزة. ولكن الأمارتين اختارتا أن تمشيان في سياقات حضارية، تنتمي للقرن الواحد والعشرين. دبي، لا تملك برميل واحد من البترول ولا متر واحد من الغاز، فقط صحراء يعيش فوقها بدو، اختاروا عاقل منهم شيخا للقبيلة، والنتيجة، قدموا نموذجا حضاريا تعدديا، بالرغم من بساطته، أدهش العالم. قطر لديها الغاز، والاهم من الغاز، واجهت خصم هو السعودية، كان يريد أن يبتلع نصف الإمارة، ليقفل الحدود بينها وبين جارتها الإمارات العربية بالقفل والمفتاح. وبدلا من أن تستحضر قطر أساطير الأولين، وتقوم بتزنير أولادها بالأحزمة الناسفة، وإرسالهم عبر الحدود لينفجروا في الخصوم، اختارت أن تصارع خصمها بطريقة غريبة عليه، تحديث الأنظمة الصحية والتعليمية والأمنية، وافتتاح قناة تلفزيونية، واتصالات دبلوماسية، وكلها أدوات بسيطة، ردت خصمها الى جحره، وتحولت الإمارة، بدون قطرة دم واحدة، الى دولة من زماننا، توفر لمواطنيها وسكانها ومن يعيشون فوقها، أنظمة تعليم وصحة وامن. بدلا من أن تكون دولة عصور غابرة، تمثل الإله على الأرض، وتدخل الحروب نيابة عنه. غزة فقد اختارت شيئا مخالفا تماما، اختارت أن تنتصب، مثلما تنتصب عنزة بقرنيها، أمام حقائق يؤمن بها الزمن. ولأنها حقائق يكرهها ناس الشرق الأوسط، ويقفون لها بالمرصاد، ادعت غزة، على صغر حجمها وضيق حدودها، إنها ممثلهم الوحيد في الحرب على الزمن. طبعا ناس الشرق الأوسط لم ينسوا غزة: إيران تعطيها 60 مليون دولار في الشهر الواحد، أما الشعوب فقد أعطتها ما أعطته قبلها لعبد الناصر وصدام حسين وبن لادن، التصفيق والعيون التي تبرق بالدموع، وأحيانا أياد تصفق، كأنها في واحد من استادات كرة القدم تصفق لنجمها المحبوب، وفوق ذلك لا ضير من إضافة بعض التوابل: مصممة شفاه وأحيانا تأوهات وضحكات مكتومة. هو خطأ الاختيارات المتراكم: بلع ملف قطر، ملفات أربع من أعظم الدول في زماننا، أمريكا واليابان وكوريا واستراليا. وقنصت التظاهرة الأكبر، كأس العالم، وجابت الدنيا الى عاصمتها. أما غزة فقد غرقت في مأزقها. طبعا غزة أو على الأقل نخبتها تعرف المأزق: الجاز والبنزين وعلب الدواء وأكياس الاسمنت وحديد عز وأقراص الفياجرا والترامادول وعلب المارلبورو الحمراء...الخ. كلها تمر من أنفاق تحت حدودها الجنوبية، يشتغل فيها بدو، من سيناء، جائعين وضائعين، ويدفعون ثمنها غاليا، سنين من أعمارهم يقضونها في المعتقلات والسجون، وفوق الشيلة حقد دفين، من ضباط امن الدولة خصوصا، والشرطة عموما يكوي الجلود الأبية ويصفع الوجوه الكريمة. وحتى لا يعتقد واحد إن، العبد لله الفقير إلى عفو ربه، ضد الصراع مع إسرائيل، أقول أن العبد لله مؤمن، حتى آخر عقدة من نخاعه الشوكي، بجدلية الصراع الأزلية، ومؤمن أن الحياة سلسلة متوالية من الصراعات، وأن الله ألهمها فجورها وتقواها. ولكنه يريد نزع قناع القداسة الزائف عن حروب الشرق الأوسط، ليهبط بها إلى مكانها الحقيقي وهو الأرض، وبدلا من أن تكون معارك تأخذ شكل النيابة عن الرب، تحويلها إلى معارك بين بشر، يتصارعون من أجل أهداف أرضية، والأقدر منهم على تقديم نموذجا حضاريا يسعى لأهداف إنسانية خاصة بالتقدم والعدل والحرية، هو من سيكسب الصراع في الآخر. لذا فأنا أرى، والكثير من رؤى مترعة حتى الآخر بالإثم، أن دبي تحارب إسرائيل أكثر مما تحاربها إيرانوغزة مجتمعتين، وقطر انتصرت على إسرائيل أكثر مما أنتصر عليها العرب مجتمعين. هذا علما بأنني لم أغادر مصر إطلاقا، اللهم إلا وأنا صغير حين أخذني والدي من ذراعي لنصلي، الجمعة اليتيمة، في بيت المقدس، وفوق ذلك فأنا لا أعرف قطريا ولا دبيانيا واحدا. كل ما في الأمر، أن عيني على القاهرة، التي أرى أنها الوحيدة القادرة على كسب الصراع، أحاول نفخ الهمة في عروقها، لتقدم نموذجا حضاريا يملأ الفراغ أمام النموذج الإسرائيلي. مواضيع ذات صلة 1. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة.. عن النموذج الإسرائيلي وتحذير البابا من غضب الرب.. 2. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة.. مانديلا فري 3. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة: سي في لسيارتي.. 4. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة 5. مسعد أبو فجر: كمائن متحركة: يوسف شعبان من ثاني..