يعتبر الدكتور مراد وهبة، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس أهم منظّري العلمانية في مصر، ومن أهم منظريها على مستوى العالم العربي. فقد وجّه اهتمامه الفكري لمحاولة تأصيل العلمانية إبستيمولوجيًا (أي في نظرية المعرفة) دون الوقوف عند حدود المصطلح في دلالته السياسية والقانونية، وذلك في صكّه للتعبير التالي: العلمانية هي عدم مَطْلَقَة النسبيّ، أي الحفاظ على المعرفة النسبية في صورتها دون اعتبارها حقيقة مطلَقة، وذلك خاصة في كتابه: "مُلاك الحقيقة المطلقة" الذي يعتبر عن بعض الشباب إنجيل العلمانية المكتوب بالعربية. لقد حاول وهبة تنظير نظرية في المعرفة العلمانية، بشكل جذري، أي دون أن يقدم (أيديولوجيا علمانية) سابقة التجهيز، كالليبرالية أو الماركسية، برغم كونه يساريًا. فلم يهتم وهبة بأيديولوجيته أو موقفه السياسي قدر اهتمامه بمشروع صياغة العلمانية والدعوة إليها في ذاتها، بحيث تناسب أي أيديولوجيا علمانية يمكن أن تتأسَّس عليها. ومن جهة أخرى حاول وهبة تأصيل العلمانية تراثيًا وثقافيًا، بعد تأسيسها معرفيًا، في شخص ابن رشد، الذي اعتبره-طبقًا لرؤيته لمعنى العلمانية المعرفي-المفكر الذي تجسدت فيه كلمة العلمانية في التراث العربي-الإسلامي. وأصدر وهبة بالتعاون مع منى أبو سنة مجلة "ابن رشد اليوم" تتضمن مقالات في هذا المعنى المعرفي للعلمانية، والذي يعد إضافة وهبة للفكر العربي المعاصر. بعد التأسيس المعرفي والتأصيل التراثي-الثقافي حاول وهبة تطبيق هذا المفهوم على مناحي عدة، منها الإبداع ومنها ظاهرة التخلف في كتابيه: "الإبداع في التعليم"، و"جرثومة التخلف"، حيث أكّد على الارتباط الإيجابي والطردي بين العلمانية كمفهوم معرفي وبين درجة الإبداع، كما حاول الربط بين الأصولية وبين التخلف المجتمعي. وهاجم وهبة نقديًا كل أشكال الأصولية، من الإسلامية إلى اليهودية إلى المسيحية. وعلى النقيض وقف المسيري في أعماله الفكرية، وخاصة في "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" في جزأين، وكذلك مؤلفات أخرى مثل "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان" يهاجم العلمانية ويعتبرها أيديولوجيا مدمرة لمعنى الإنسان وحياته. فإذا كان وهبة حاول تأسيس العلمانية معرفيًا فإن المسيري حاول تأسيسها قيميًا، وذلك باعتباره أن العلمانية الشاملة هي الوليد الشرعي للعلمانية الجزئية، وبينما تقف العلمانية الجزئية عند حدود فصل القانون عن الشريعة الدينية في تعبير "فصل الدين عن الدولة" فإن العلمانية الشاملة تنطلق إلى مدى قيمي أبعد وهو فصل القيَم عن الحياة. وهو ما يعني أن العلمنة بمعنى فصل الدين عن الدولة من الطبيعي أن تؤدي إلى فصل القيم عن الحياة اليومية. ويلتقي المفكران في محاولة صياغة العلمانية كمذهب، أعقدَ من صورتها البسيطة في الغرب، التي هي فصل الكنيسة أو الدين عن الدولة. رأى وهبة أن العلمانية هي نتيجة لنظرية في المعرفة مؤداها أن الحقائق نسبية بطبيعتها وأن على العقل قبول هذه الحدود، بينما اعتقد المسيري أن العلمانية سبب لنظرية في القيمة مؤداها أن القيم منفصلة عن الحياة. وبينما جاءت محاولة وهبة أكثر وجاهة واتساقًا-ربما بحكم كونه فيلسوفًا في الأصل-في ربطه بين فصل الشريعة (التي هي حقيقة مطلقة عند مشايعي الدولة الدينية من الإسلاميين مثلاً) عن القانون (الذي يجب أن يناسب كل مواطني الدولة على مختلف اعتقاداتهم) وبين نظرية المعرفة النسبية التي سبق ذكرها أعلاه، شاب عمل المسيري الكثير من المغالطات الجذرية والاستقراءات غير الواقعية من حال المجتمعات الغربية، فلا يوجد مجتمع في الغرب أو الشرق يقوم بهذا الفصل بين القيم والحياة فضلاً عن محاولة تفسير هذه الظاهرة التي لم تحدث. لكن كلاً من المفكرين قد ذهب بالعلمانية إلى مدى أبعد مما تحتمله الكلمة في بساطتها، التي هي فصل الشريعة عن القانون، وهو ما أدى إلى صياغة العلمانية في شكل مذهب في المعرفة أو الأخلاق، الأمر الذي أدى إلى زيادة حدة الاستقطاب بين العلمانيين والإسلاميين، وهو أمر لم يكن قط حتى هذه اللحظة في الصالح السياسي للمجتمعات العربية. وعلى النقيض حاول حسن حنفي في مشروع "التراث والتجديد" تأصيل العلمانية في التراث الإسلامي من جهة، وعلمنة هذا التراث من جهة أخرى، باعتباره الإسلام كدين غير متناقض مع العلمانية، بل –على حد تعبيره-مستهدِفًا لغايات علمانية أصيلة، كالقضاء على السلطة الدينية، وتحرير العقل.. إلخ. وقد تسلح حنفي في هذه المهمة بالأدوات التأويلية في هذه العملية المزدوجة من "التأصيل والعلمنة Fundamentalization and Secularization"، وكان هدف حنفي رأب الصدع بين المعسكرين توحيدًا لجهودهما الثورية نحو غاية وطنية واحدة.