إحدى أعرق العائلات الحافظة لكتاب الله، ولترتيله وتجويده، منحت "السميعة" أجمل أصوات قراء القرآن، وأكثرها طلاوة وشجنا. هي عائلة «المنشاوي» بسوهاج. ذاع صيت الوالد، صديق المنشاوي، «صديق الكبير»، في الصعيد خلال أربعينات القرن الماضي، فهناك يوجد "سميعة" للقرآن. وكان أخوه، أحمد، أيضا قارئا متميزا، غير أن شهرة العائلة بلغت ذروتها، مع الابنين، الراحل الكروان، محمد صديق، ومحمود، متعه الله بالصحة. وما تزال العائلة تواصل مسيرتها، وأحدث حبات عُقد ترتيلها، الحفيد.. صديق محمود المنشاوي. أول الغيث كان الشيخ صديق ابن السيد تايب المنشاوي (1898- 1984)، ولد بالمنشأة، محافظة سوهاج، وحفظ القرآن صغيرا، ونبغ في التلاوة وذاع صيته، حتى صار قارئ الصعيد الأشهر، وتأثر به جميع قراء الصعيد، لسوء الحظ رفض التسجيل للإذاعة المصرية، وقال يكفيهم التسجيل لولده الشيخ محمد، لكنه سجل عدة شرائط للقرآن لإذاعتي لندنوسوريا. كان زاهدا في الشهرة عامة، من مقولاته: «لا أخرج من الصعيد، ولا يخرج الصعيد مني». منحته الدولة وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية «بعد وفاته بعام». الابن الأول، محمد صديق (1920-1969) أحد أعذب الأصوات على الإطلاق، تربع علي عرش التلاوة في خمسينيات القرن الماضي، وتمتع بصوت خاشع حزين حتي لقب بالصوت الباكي. التحق بكتاب القرية وعمره أربع سنوات، ورأى شيخه، أبومسلم، فيه خيرا كثيرا، لسرعة حفظه وحلاوة صوته، فكان يشجعه ويهتم به، فأتم حفظه قبل أن يتم الثامنة من عمره. اصطحبه عمه الشيخ أحمد السيد إلى القاهرة ليتعلم القراءات وعلوم القرآن، على يد الشيخ محمد مسعود، الذي انبهر بنبوغه المبكر، فأخذ يقدمه للناس في السهرات والليالي، وظل الصبي محمد صديق يتحرك في دائرة شيخه حتى بلغ الخامسة عشرة فاستقل عنه وعن والده. تميز محمد بقدراته التعبيرية وحسه المرهف في التلاوة، وورث عن والده العزة والاعتداد بكرامة قارئ القرآن. كان صيته وشهرته وحسن قراءته حديث الناس، فأرسل مسئولو الإذاعة له من يطلب منه التقدم لاختبارها، فإن اجتازه يعتمد مقرئا بها. رفض الشيخ وقال: لا أقبل أن يعقد لي هذا الامتحان أبدا. فأمر مدير الإذاعة بأن تنتقل وحدتي تسجيل إلى حيث يقرأ الشيخ محمد صديق، وأبي، وتصادف أن كانت أول ليلة يحييها الابن، هي حفل رمضاني في قرية إسنا، بدار أحد أثرياء عائلة حزين. وأول ليلة لصديق الكبير في بيت الحاج أحمد أبورحاب، بقرية العسيرات، محافظة سوهاج. وكانت المرة الأولى التي تنتقل فيها وحدات الإذاعة بمعداتها ومهندسيها للتسجيل لأحد المقرئين. ومن قصص عِزة نفسه، أنه رفض دعوة أحد الوزراء للقراءة أمام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لأن الوزير تحدث عن أنه سينال شرف القراءة أمام عبد الناصر، فعلق الشيخ: «ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر، أنه سيستمع للقرآن بصوت محمد صديق المنشاوي». وفيما بعد قال لمُعاتبيه: «أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلي أسوأ رسله». للشيخ محمد المنشاوي تسجيل كامل للقرآن الكريم مرتلا، والعديد من التسجيلات في المسجد الأقصى والكويتوسوريا وليبيا، كما سجل ختمة قرآنية مجودة للإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة مشتركة برواية الدوري مع القارئين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي. ورغم اصابته قبل رحيله بثلاث سنوات بمرض دوالي المرئ، وتنبيهات الأطباء بضرورة امتناعه عن القراءة بصوت مرتفع، فإنه ظل يجهر بالتلاوة حتي آخر أيامه، وحين اشتد عليه المرض، وعلم عبد الناصر، أمر بسفره للعلاج في لندن، إلا انه رحل قبل السفر. منحه الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، وحصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا، فيما لم ينل أي تكريم رسمي مصري، والأسوأ أن الإذاعة المصرية أتلفت تراث الشيخ من المصحف المجود، وسجلت عليها مواد أخرى. الابن الثاني، الشيخ محمود صديق، مواليد 1940. حفظ القرآن الكريم في الثامنة، التحق بإذاعة القرآن الكريم بعد ثمانية أشهر من رحيل شقيقه محمد، سجل المصحف مرتلا، له عدة تسجيلات في الكويت والإمارات واليمن والسودان وإيران وماليزيا وجنوب أفريقيا. آخر حبات العقد، هو صديق الصغير، نجل الشيخ محمود، تنويعة أخرى على حلاوة صوت المنشاوية، وعزة نفس الجد: "لا أخرج من الصعيد، ولا يخرج الصعيد مني». رافضا الإقامة في القاهرة، حتى لو خفتت من حوله الأضواء.