هبة صلاح و محسن هاشم هؤلاء حملوا بضائعهم على أكتافهم ووقفوا تحت أشعة الشمس أو احتموا ببقعة ظل من أجل العودة آخر اليوم لأولادهم ببعض النقود التي تقيهم من الجوع في مجتمع لا يرحم أحدا، فهي مهنة من لا مهنة له، تعالج بطالة صنعهتها دولة الفقر والجهل والمرض، هم الباعة الجائلون، ظاهرة ليست بجديدة على مجتمعنا ومجتمعات العالم الثالث، بل اعتدنا عليها حيث لا يخلو شارعا من شوارع مصر من وجود بائع جائل منذ عشرات السنين. ولكن تغيرا طرأ على هذه الفئة بعد ثورة يناير، فكانت أحد أهم ظواهر الانفلات الأمني وصنع نظام مبارك جزء منها واستخدمها في معاركه ضد معارضيه حتى أفقد البعض تعاطفه معهم ووضعهم في سلة واحدة مع فئة البلطجية وتجار المخدرات، والبعض الآخر ينظر لهم على أنهم فقراء ضحية مجتمع يسعون لكسب رزقهم بدلا من التسول، والآن ومع النظام الجديد، فقد تكرر تعامل الأمن القمعي مع هذه الفئة تحت دعوى استعادة الانضباط وهيبة الدولة، فقد شنت الأجهزة الأمنية حملة واسعة على مستوى الجمهورية لإزالة الباعة الجائلين والتعديات على الطرق طالت الجميع دون أي تفرقة بين متعد وكاسب رزق، ولم تضع لهم بديلا عن أماكنهم حتى تنهي هذه الظاهرة .. إلى أن تحول المشهد إلى لعبة "القط والفأر" فعقب رحيل أي حملة سرعان ما يعود كل إلى مكانه ويستعد للجري حال وصول حملة جديدة. يبلغ عدد الباعة الجائلين بمنطقة وسط البلد فقط 2200 بائع في مناطق رمسيس والإسعاف و26 يوليو والأزبكية وقصر النيل وفقا للحصر الذي أجرته النقابة المستقلة للباعة الجائلين بمشاركة مهندسين من الحي وشرطة المرافق ومحافظة القاهرة، ومن المقرر نقلهم لجراج مول الترجمان. وقال عبد الرحمن محمد، بائع بمنطقة العتبة، والأمين العام للنقابة المستقلة للباعة الجائلين بالقاهرة، إنهم كباعة يرحبون بأي بديل طالما سيناسب البائع وسيوفر له الأمان والاستقرار، مؤكدا أن ظاهرة الباعة الجائلين تزايدت بعد الثورة بسبب إغلاق العديد من المصانع والشركات وزيادة البطالة، وتخلت الدولة عن تشغيلهم، فلجأوا إلى توفير قوت يومهم عن طريق الوقوف في الشارع، خاصة وأنه لا يمكن لأحد أن يمنعهم من أكل العيش، مشيرا إلى وجود باعة يحملون مؤهلات عليا يبلغون نحو 60 %، ولكن ليس معنى أنهم يقفون بطريقة عشوائية بالشارع أنهم بلطجية. وأكد "عبد الرحمن" على رفضهم الحلول الأمنية، قائلا: " اديني حقي الأول ونفذ عليا القانون"، فلا يمكن أن يتم التعامل معهم بطريقة غير آدمية قبل توفير بديل، خاصةً وأن الدولة تعلن التزامها بتطبيق العدالة الاجتماعية "كل واحد بيقول حاجة ومبينفذهاش"، مشددا على أنهم لن يصمتوا كثيرا على قطع أرزاقهم قائلا: "أنا بحب وبحترم بلدي بس لغاية امتى هسكت لما بيكسرلي النصبة الخشب وياخد بضاعتي". ويشير عبدالرحمن إلى أن عملية إزالة الباعة الجائلين بالقاهرة تشهد انتهاكا أقل من المحافظات الأخرى لأنها مسلط عليها الضوء، رغم رؤيته حملة تم شنها على منطقة العتبة وكان الضباط يهددون الباعة بالكلاب البوليسية لإجبارهم على ترك أماكنهم، لأن " البشاوات والوزراء يمرون من شارع 26 يوليو وشوارع وسط البلد، وازاي يشوفنا؟ طبعا شكلنا غير حضاري ميصحش" على حسب وصفه. ويضيف: أرسلنا استغاثة للمشير عبد الفتاح السيسي نطالبه فيها بالوقوف إلى جانبنا، ووقف التعامل غير الآدمي مع الباعة خارج القاهرة، مطالبين بضرورة توفير البديل أولا وبعد ذلك يطبق القانون على من يخالف. "الحملة بتيجي بتبهدل الدنيا وبيشيلوا البضاعة بالبندقية، واللي بيتكلم بينضرب ويتاخد يبات في التخشيبة" هكذا قالت فاطمة صبحي، بائعة الأدوات المنزلية بمنطقة كلية الزراعة بشبرا الخيمة، ورئيس النقابة المستقلة للباعة الجائلين بالقليوبية، وتابعت: "عندي بياع اسمه أشرف عملنا له جمعية وعمل فاترينه حديد وجاب بضاعة بعشرة آلاف جنيه، وراحت الحملة جت خدت البضاعة وكسرت له الباترينة وراح يجيبها من الحي لاقاها راحت مقلب الزبالة واتعدمت". وأضافت فاطمة، أن الإزالة تضرر منها نحو 800 بائع تابعين لمحافظة القليوبية، وتقدمنا بشكاوى للمحافظة والحي ولا أحد يستجيب، وطرحت "فاطمة" حلا لمشكلتهم تمثل في توفير أماكن بديلة بالقرب من أماكنهم الحالية مثل: "شارع الزهور، والجراج بجوار كليه الزراعة، والمنطقة المجاورة للدائري، وبجوار السكة الحديد"، أو منحهم تراخيص مؤقتة. وعن أسباب عودتهم مرة أخرى لأماكنهم قالت: "بنرجع نفرش تانى عشان نجيب أكل نأكل عيالنا.. هنعمل إية رغم إن إيراد اليوم بيقل النصف"، مؤكدة أن الحملات "بتأخذ عاطل في باطل" على حد وصفها. وأشارت فاطمة إلى أن في ناس عندها تراخيص وتم إزالتهم بسبب تخطيهم المساحة المحددة في الترخيص، وعلى الجانب الآخر توجد أكشاك غير مرخصة ولم تطولها الإزالة بسبب ما أنهم "يدفعون من تحت الترابيزة". وانتقدت فاطمة عدم تعامل محافظ القليوبية معهم كنقابة، وعدم اعترافه بهم، رغم أن محافظي القاهرةوالجيزة يتعاملون مع النقابات المستقلة ويشاركوهم في القرار، مضيفة أنهم يستطيعون إجراء حصر للباعة والتفرقة بين البلطجي والغلبان، لانهم يعرفون بعضهم البعض جيدا، مؤكدة أنه في حالة وضع قواعد محددة على الجميع فحتى البائع البلطجي سيلتزم رغما عنه، وسيلتزم كل واحد منهم بحدوده، ومن يخالف الجميع سيقف ضده. وكشفت فاطمة أنهم بصدد تنظيم وقفة احتجاجية كبيرة أمام وزارة التنمية المحلية حال عدم حل مشكلتهم خلال لقائهم بالوزير المقرر الأسبوع الجاري. وعلى جانب آخر، قال خالد الجمصي، أحد النشطاء النقابيين بمنطقة حلوان: إن حملات الإزالة لم تتعرض للبائعين بحلوان المتواجدين بجوار محطة المترو رغم محاولات إزالتهم أكثر من مرة من قبل، مؤكدا أن القوى الأمنية اتجهت إلى الأكشاك والمحلات المتعدية على الطريق، موضحا أن عمليات الإزالة تتم بطريقة آدمية لأن البائعين يخافون من القوات الأمنية ويسرعون في حمل بضائعهم وترك المكان. وتابع "الجمصي" قائلا: "الباعة في الوقت الحالي فقدوا تعاطفا كبيرا من الناس بسبب سلوكيات بعضهم، فقد حدثت منهم وقائع تحرش وسرقة ومشادات دائمة، فالمواطن إذا أراد إعادة منتج يتم ضربه" ولكن هذا لا يعد قاعدة عامة، ولكنه موجود بالفعل ولابد من مواجهته، وكذلك فتح الطريق للمرور وللتحرك بحرية. فيما قال عيد عبد التواب، رئيس نقابة الباعة الجائلين بالجيزة، أن الحكومة تختار أحيانا أماكن لا تصلح لأحد، وتختارها بدون التنسيق مع الباعة أنفسهم، أما بخصوص منطقة الجيزة، فالمكان المحدد وهي "وابور التل" مكانه مناسب ولكنه غير مجهز الآن لاستيعاب الباعة الجائلين، مؤكدا أن الباعة لا يوجد لديهم مانع للذهاب لأي مكان طالما سيكونون تحت حماية الدولة، وبشرط ألا يترك مكانه مرة أخرى، متعهدا بأنهم كباعة مستعدون لتوقيع إقرارات على عدم عودتنا لأماكننا، ولكن حال توفير بديل مناسب". وعن منطقة مصر الجديدة، قال عبد الله خليفة، بائع شرابات بالمنطقة: " إن النظام الجديد يتعامل بشكل أسوء من النظام القديم، فقد نزلت الحملة لتكنس الشارع باللي فيه"، ويتم مصادرة بضائعهم رغم أنهم لا يمثلون إشغالات للطريق، فهم واقفون على أرصفة محددة ولا يعيقون المرور. وأضاف "خليفة": أن مطالبهم الأساسية تتمثل في منحهم تراخيص أو تحويلهم إلى أكشاك محددة الأماكن، مشيرا إلى أنهم توجهوا للحي والمحافظة والتقوا برئيس حي مصر الجديدة وتقدموا بشكواهم، وكان الرد أنه جاري توفير أماكن بديلة لنا. وعن عودتهم مرة اخرى بعد رحيل الحملة قال خليفة: "بنرجع تاني عشان نلاقي نأكل عيالنا وفرلونا البديل بسرعة واحنا هنمشي". وأكد محمد خلف -رئيس النقابة المستقلة للباعة الجائلين بمنطقة روكسي، ويمتلك كشكا مرخصا بالمنطقة على أن الحملات طالتهم رغم أنهم متواجدين بهذه المنطقة عبر الأكشاك القانونية تحديدا منذ عام 1996، وتوجد لديهم رخص بمزاولة المهنة منذ 1985 كسويقة قانونية مرخصة بعدما كانت لديهم طاولات يعرضون عليها بضائعهم. وتابع خلف قائلا: "احنا انتخبنا السيسي وكنا فرحانين، لكن أول حاجة تتعمل إنهم يجوا على الغلابة؟!" مشيرا إلى أنهم يواجهون مطاردات أمنية منذ عصر مبارك، وكانوا دائما الطرف الأضعف في المعادلة، فهم أول من عانى من نزول الشرطة لأول مرو بعد ثورة يناير، في شارع إبراهيم اللقاني لاستعراض "استعادة هيبة الدولة" على هؤلاء، حيث نزلت قوات الأمن، وضربتهم واحتجزتهم، وحملت بضائعهم لقسم الشرطة. وعن هذه الحملات: يقول د. جلال مصطفى سعيد محافظ القاهرة ل"البديل": إن الحملات المكثفة اليومية التي تشنها المحافظة لاستكمال إزالة ورفع الإشغالات نهائيًّا وعدم عودتها مرة أخرى والقضاء على تجمعات الباعة الجائلين المنتشرة بالشوارع الرئيسة؛ من أجل أن تعود هيبة الدولة وتطبيق القانون وتفعيله على الجميع دون تمييز، وإعادة الانضباط للشارع المصري من أجل أن تصبح العاصمة فى أبهى صورة حضارية، بالإضافة إلى تسيير حركة المرور وعدم إعاقتها، وأن الرأي العام في مصر مساند تمامًا لشن تلك الحملة. وحول توفير أماكن بديلة للباعة الجائلين قريبة من محيط وسط البلد، قال السعيد: إنه تم اتخاذ مقر "جراج متعدد الطوابق بالترجمان" مكان بديل مؤقت للباعة الجائلين ويسع أكثر من 3 آلاف مكان لحين الانتهاء من المبنى المخصص لهم، والذي تم اختياره بمنطقة أرض "وابور الثلج"، وأن المحافظة لديها حصر للباعة الجائلين بوسط القاهرة، وهناك لجنة تتابع الأعداد المتزايدة، وأخرى تقوم بتقسيم تلك الأماكن التي سيتم توزيعها عن طريق القرعة. وعن المتضررين من إزالة وحدات سكنية، تم التعاقد عليها وضياع "تحويشة العمر" طالب المحافظ من كل مواطن بأن يتأكد قبل التعامل مع أي وحدة سكنية بالشراء أو الإيجار من حصول المالك على التراخيص اللازمة وملكية الأرض حتى يطمئن بأنه لم يشترِ الوهم، وعلى كل مواطن تضرر من إزالة وحدة سكنية قام بالتعاقد عليها بالتوجه إلى النائب العام والإبلاغ ضد مالك العقار الذي خدعه وباع له الوحدة.