هو عالم تفرد في كل شيء، حتى في صياغته اللغوية، فأصبح ضحية تفرُّده وتمسُّكه بعملة منقرضة، لفظها هذا الزمان، اسمها "الكرامة".. ظل محتفظاً بها في صومعته كأهل الكهف، ولكنه للأسف لم يخرج مثلهم ليعرف أن هذه العملة قد اندثرت في هذا الزمان؛ فلم يكن الدكتور جمال حمدان مجرد أستاذ للجغرافيا في جامعة القاهرة، بل كان مفكرًا وعالِمًا أفنى عمره كله باحثًا عن ينابيع العبقرية في الشخصية المصرية، محلِّلاً للزمان والمكان والتاريخ التي أدت إلى حفاظ تلك الشخصية على مقوماتها. وكان حمدان يرى أن مصر تحولت من أول أمة في التاريخ إلى أول دولة، ثم أول إمبراطورية، وتوصل إلى تلك الحقائق من خلال دراسات جادة وأبحاث متعمقة، ولم يكن حمدان بعيدًا عن قضية العرب والمسلمين الأولى، وهي قضية فلسطين، التي اغتصبها الصهانية، بل قام بعدد من الدراسات عن اليهود، مُفنِّدًا أساطيرَهم المزعومة عن حقهم التاريخي في أرض فلسطين. وُلد المفكر الكبير جمال حمدان في محافظة القليوبية عام 1928م في أسرة تنتهي إلى قبيلة "بني حمدان" العربية، التي جاءت إلى مصر مع الفتح الإسلامي، وكان والده مدرسًا للغة العربية، وتعهد الأب ابنه بالرعاية واهتم بتعليمه؛ حيث أرسله إلى الكتاب ليتعلَّم القرآن الكريم، وحصل حمدان على التوجيهية عام 1944م، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بكلية الآداب- قسم الجغرافيا، وتخرَّج فيها عام 1948م، ثم عُيِّن معيدًا بها، ثم سافر إلى بريطانيا في بعثة حصل خلالها على الدكتوراه عام 1953م، وكان موضوعها "سكان الدلتا قديمًا وحديثًا"؛ مما يؤكد أنه لم ينسَ وطنه إطلاقًا، حتى لو ابتعد عنه بجسده. حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959م وعمره لم يتجاوز 31 سنة، إلا أن الحادث الأهم في حياة الدكتور جمال حمدان – والذي دفعه إلى الانعزال عن المجتمع في شقته بالدقي، التي تتكون من غرفة واحدة حتى مات فيها محروقًا – حين تقدم لنَيل درجة أستاذ مساعد، وأقرت اللجنة العلمية هذا الترشيح مع أستاذ جامعي آخر؛ حيث كانت هناك درجتان تَقدَّمَ لهما أربعة من العاملين بالتدريس بالجامعة، ورأى حمدان أن مساواته بزميله إهانة له ولإنتاجه، وأنه كان يجب أن تقوم اللجنة بوضع ترتيب بين المرشحين يوضح أهمية أبحاث ودراسات كل منهما. تقدم باستقالته التي لم تقبلها الجامعة إلا بعد عامين، كان خلالهما مسئولو قسم الجغرافيا يحاولون إثناء حمدان عن قراره دون جدوى، ومنذ ذلك الحين فرض حمدان على نفسه عزلةً اختياريةً عن الناس؛ حيث لم يكن يستقبل أحدًا في منزله. كان يمتلك قدرة ثاقبة على استشراف المستقبل، متسلحًا بفهم عميق لحقائق التاريخ ووعي متميز بوقائع الحاضر، ففي عقد الستينيات، وبينما كان الاتحاد السوفييتي في أوج مجده، والزحف الشيوعي الأحمر يثبت أقدامها شمالاً وجنوبًا، أدرك جمال حمدان ببصيرته الثاقبة أن تفكك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وكان ذلك في 1968م، فإذا الذي تنبأ به يتحقق بعد إحدى وعشرين سنة، وبالتحديد في عام 1989، حيث وقع الزلزال الذي هز أركان أوروبا الشرقية، وانتهى الأمر بانهيار أحجار الكتلة الشرقية، وتباعد دولها الأوروبية عن الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991م. وصف في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" إسرائيل بأنها "دولة دينية صرفة، تقوم على تجميع اليهود، واليهود فقط، في جيتو سياسي واحد، ومن ثم فأساسها التعصب الديني ابتداء، وهي بذلك تمثل شذوذاً رجعيًّا في الفلسفة السياسية للقرن العشرين، وتعيد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى، بل القديمة". وأدرك حمدان مبكرًا من خلال تحليل متعمق للظروف التي أحاطت بقيام المشروع الصهيوني أن "الأمن" يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، واعتبر أن وجود إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، مشيرًا إلى أنها قامت ولن تبقى – وهذا تدركه جيداً – إلا بالدم و الحديد والنار؛ ولذا فهي دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها؛ ولذا أصبح جيشها هو سكانها وسكانها هم جيشها. وحدد جمال حمدان الوظيفة التي من أجلها أوجد الاستعمار العالمي هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، وهي "أن تصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكريًّا، ورأس جسر ثابت استراتيجيًّا، ووكيلاً عامًّا اقتصاديًّا، أو عميلاً خاصًّا احتكاريًّا، وهي في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضيًّا يمزق اتصال المنطقة العربية، ويخرب تجانسها، ويمنع وحدتها، وإسفنجة غير قابلة للتشبع، تمتص كل طاقاتها، ونزيفًا مزمنًا في مواردها". جمال حمدان عانى من تجاهل ونسيان لأكثر من ثلاثين عامًا، قضاها مُنزويًا في شقته الضيقة، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات. وعندما مات بشكل مأساوي، خرج من يتحدث عن قدرة خارقة لحمدان على التفرغ للبحث والتأليف بعيدًا عن مغريات الحياة، كما لو كان هذا الانزواء قرارًا اختياريًّا، وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعامل مع أفكاره التي كانت سابقة لزمانها بسنوات.