كان من المفترض لأول كتبها أن ينشر في 1949، ولكن الرقابة لم تصرح به، زاعمة أنه لا يتماشي مع المناخ الاشتراكي، وبالرغم من ذلك استمرت الشاعرة البولندية «فيسوافا شيمبورسكا» في مديح لينين وستالين والشيوعية. تمر اليوم الذكرى الثانية لوفاة صاحبة نوبل للآداب، التي انضمت لحزب العمال البولنديين المتحدين، ولكنها ككثير من المفكرين البولنديين تخلت عن أفكارها الشيوعية لكنها لم تترك الحزب حتى 1966. «الصمت يلفنا بغلالته لدرجة أننا نصغي إلى أغنية قد غنيت بالأمس: "أنت سوف تتجه نحو أعلى الجبال وأنا إلى أسفل.." ومع أننا نصغى إليها.. إلا أننا لا نصدق» استطاعت «شيمبورسكا» أن تعيد النظر فيها من الناحيتين العقائدية والفنية، أقرب ما تكون إلى الواقع الجدلي والحياة الموضوعية حينما تبتعد عن الذهن الأسير، ذهن يتألم تحت هيمنة الكبت والأفازيا الإيديولوجية، وذلك لتؤلف عبارة. كانت «شيمبورسكا» جريئة على فنون القول، ولكنها حكيمة بالفطرة، وقادرة على تجاوز عتبة الفلسفة الإقليدية، بمعنى أنها تستطيع أن تعيش من خلال النشاط الكلامي وبلا صور. ليس هناك حاجة إلى إعادة تصوير الواقع في قصائدها المائية والباردة التي تثلج صدرا احترق برماد فلسفي وعقائد من فولاذ. «بكلمة لا، أنت تسيء الفهم. دع معك قرطاس الأوراق البليدة وعليها تلك النقوش. أنا بحاجة للنهايات، لنذر يسير من نفاياتك ولأثر من رائحة احتراق.. طواه النسيان». «شيمبورسكا» شاعرة التفاصيل والتناقضات بامتياز. شاعرة "الجزالة الشعرية" و"السهل الممتنع" بامتياز، هكذا وصفها النقاد، وقالوا أيضًا إن كل قصيدة من قصائدها مهما كان مستواها هي قصيدة جديدة، تشكل حضورا وتفردا بامتياز. تكاد تكون شيمبورسكا قد كتبت عن مختلف شئون الحياة بطريقتها الخاصة، بحيث أصبحت كل قصيدة لها بمثابة لوحة إما أن تتفاعل معها أو ترفضها وهذا أمر صعب المنال بالنسبة لعموم الشعراء. يغلب الوعي على ما هو سواه- في مجمل عملية الخلق الشعري لدى الشاعرة. لأكثر من خمسين عاما كانت قصيدة «شيمبورسكا» وما تزال تحفر سماتها وصوتها الخاص في الشعر البولندي المعاصر. إنه حفر ونقش يشبه ما وصلنا من نقش في الكهوف والمعابد من حيث سأثر. بدون ضوضاء، وإدعاءات فارغة وتزلف. الكتابة لديها عمل شاق دؤوب دقيق ومعاناة حقيقية، يقابلها متعة كتابة التي سمتها الشاعرة في واحدة من بين أجمل قصائدها "فرح الكتابة". «سنستنزف أنفسنا بالكلمات وبعدها سننحني وسيكون هذا خاتمة الهزلية. سيذهب المتفرجون للنوم ضاحكين حتى الدموع». ترأست «شيمبورسكا» مجلس تحرير مجلة «الحياة الأدبية» خلال الأعوام 1953-1981، وكانت مسؤولة عن العمود اليومي في المجلة بعنوان «المنهج الأدبي غير المقرر»، والذي تم تجميعه وإصداره في كتاب واحد. ومن عام 1981 أصبحت الشاعرة عضواً لمجلس تحرير مجلة «المنشور» التي كانت خاصة بالوسط الأدبي في مدينة كراكوف. كان الديوان الأول لها بعنوان "لهذا نحيا" وقد أصدرته الشاعرة عام 1952. ثم توالت الدوواين الشعرية: "أسئلة أسألها" 1945، "مناشدة إلي بيتي"، "الملح" 1962، "ليست للأفراح حدود أو الأفراح المائة" 1967، "مهما كانت الأحوال" 1972 ، "كم كبير" 1976، "الناس فوق الجسر" 1986، "النهاية ثم البداية" 1993، "أمسيات شاعرة" 1993، "حب سعيد وقصائد أخري". ترجم أعمالها الشعرية ومحاضراتها عدد كبير من المترجمين، خاصةً بعد حصولها على نوبل عام 1996، وترجم قصيدتها «تَحْتَ نَجْمَةٍ صَغيرَةٍ ما»، من البولندية للإنجليزية "جوانا ترشيسياك"، وهي الترجمة التي اعتمد عليها "غسان أحمد نامق" عندما نقلها إلى العربية.. وإلى القصيدة: «إعتذاري لِلصُّدفة إذ دَعَوْتُها ضَرورة إعتذاري لِلضَّرورة إن كُنتُ مُخْطِئة لا تَغْضَبي أيَّتُها السَّعادة إذ اعتَبَرْتُكِ لي لِيَغْفِرَ لي المَوْتى أنَّ ذِكْراهُم مُجَرَّدُ وَمْضة إعتذاري لِلزَّمِن عن كَمّيّة الدُّنيا المَغْفول عَنها في كُلّ ثانية إعتذاري لِحُبٍّ قَديم إذ عامَلْتُ حُبّاً جَديداً كأوَّلِ حُب سامِحيني أيَّتُها الحُروبُ البَعيدةُ إذ أخَذْتُ أزهاري للبيت سامِحيني أيَّتُها الجُروحُ الفاغِرَةُ إذ وَخَزْتُكِ بأصْبِعي إعتذاري عن اسْطِوانة المِنْويت لأولئكَ المُنادينَ من الهاوية إعتذاري لأولئكَ في مَحَطّاتِ القِطار عن النَّوْمِ العَميقِ عِندَ الخامِسَةِ صَباحاً عُذْراً أيُّها الأمَلُ المُطارَدُ إذ ضَحِكْتُ أحياناً عُذْراً أيَّتُها الصَّحارى لِعَدَم اسْتِعْجالي بِمَلْءِ مِلْعَقَةِ ماء وأنتَ أيُّها الصَّقْر، الطّائرُ ذاتُهُ في القَفَصِ ذاتِهِ لِسَنَوات، مُحَمْلِقاً بِلا حَراك، دائماً في ذاتِ المَكان، إغْفِرْ لي حَتّى لَوْ كُنتَ مَحْشُوّاً. إعتذاري إلى الشَّجَرَةِ المَقْطوعَةِ من أجْلِ سيقانٍ أربَعَ لِلطّاولة إعتذاري لِلأسْئلةِ الكَبيرةِ عن الأجْوِبة الصَّغيرة أيَّتُها الحَقيقة، لا تَحْفَلي بي كَثيراً أيُّها الوَقار، لِيَكُن صَدْرُكَ رَحباً مَعي كُنْ صَبوراً مَعي يا سِرَّ الوُجودِ إذ سَلَلْتُ خُيوطاً من وِشاحِك. أيَّتُها الرّوح، لا تَلوميني إذ لَمْ تَكوني لي إلّا قَليلاً إعتذاري لِكُلّ شيء إذ لا أسْتَطيعُ أن أكونَ في كُلِّ مَكان إعتذاري لِلجَميع إذ لَمْ أعْرِفْ كَيْفَ أكونُ كُلَّ رَجُلٍ وَكُلَّ امْرَأة أعْلَمُ أنّي طالما كُنتُ حَيَّةً لا شيء يُمْكِنُ أن يَعْذُرَني، لأنّي عَقَبَةُ ذاتي. لا تُسَجِّلْها عَلَيَّ، أيُّها الكَلام، إذ اسْتَعَرْتُ كَلِماتٍ ثَقيلة، ثُمَّ أُجْهِدُ نَقْسي لأجْعَلَها خَفيفة».