ما أحوجنا ومصر تمر بفترة حرجة من تاريخها إلى مراجعة ما شاع من توصيف وتصنيف يغاير الواقع ويتناقض مع حقائقه، فبين وصف ثورة 25 كانون الثاني/يناير ب'المؤامرة' التي نفذها ‘خونة وعملاء ومرتزقة'، إلى تصنيف ثورة 30 حزيران/يونيو 2013 ب'إنقلاب' معد من قِبَل شخص وزير الدفاع، حسب قول القائلين! وهذا وذاك ينظر باستخفاف إلى الشعب، ويستهين بمطالب الملايين الذين خرجوا طلبا لطرح الثقة في الرئيس أو إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة، ويقلل من قيمة ندائهم وكأنهم جبلوا على التآمر والتضحية من أجل ‘الانقلاب'، وهدف هذه الادعاءات خلط الأوراق وإسقاط الفروق عن عمد بين الثورة والمؤامرة وبينها وبين الإنقلاب، وهذا يتكرر دائما مع كل تحول نوعي وغير عادي في توجهات الشعب، ويمكن رصده على مدى أكثر من قرنين؛ بداية من ثورة القاهرة الكبرى، في أول القرن التاسع عشر، مرورا بثورة عرابي في نهايته، وصولا إلى ثورة 1919 وإنتهاء بثورة 1952 في القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، وكل تلك التحولات وُصفت وصُنفت من قِبَل أعدائها ومناوئيها، بعكس ما فيها وعلى النقيض مما سعت إليه. وما يجري من إجهاض وتجريم للحراك الوطني استمرار لنفس النهج، الذي تتبعه القوى السياسية الرافضة والمناوئة له، وهي قوى لا تتوقف عن لعن وسب وإهالة التراب على مجمل الستين عاما الماضية، دون تفرقة أو فصل بين مراحلها وتطوراتها، وتنظر إليها وتتعامل معها حزمة واحدة لها اتجاه واحد لا يتغير، وتبدو هذه القوى مختلفة في المصالح والتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكنها تجتمع على رفض للستين عاما جملة وتفصيلا. لنرى كيف بدأت هذه الحقبة؟ بدأت حقبة الستين عاما بمرحلة الثورة وفيها انتصر الضباط الأحرار على النظام القديم؛ الممثل في تحالف الاحتلال والقصر وكبار الملاك، وحملت ثورتهم علي عاتقها التصدي للاستعمار والاحتلال والاستيطان، وكان ذلك الثلاثي الخارجي قد هيمن وتحكم في المنطقة العربية وامتد نفوذه إلى كامل إقليم الشرق الأوسط. وعملت العشرينية الأولى من الستين عاما على تحقيق استقلال مصر ودعم المتطلعين إلى التخلص من الاستعمار والمستعدين لمقاومة الاستيطان والتفرقة العنصرية، وكان الاستيطان قد استقر في الجزائر منذ 1830 واستمر حتى 1962، واستدار على فلسطين مع أفواج الهجرة اليهودية إليها، مطلع القرن العشرين حتى قيام الدولة الصهيونية في 1948 حتى الآن. تخلصت الجزائر من الاستيطان الفرنسي بحرب تحرير شاملة وتضحيات جمة على جبهتي السياسة وتولتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية منذ ظهورها في حزيران/يونيو 1954، وجبهة السلاح، وخاضها جيش التحرير الوطني الجزائري، وانطلقت الثورة في أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954، واستهدفت تحرير الأرض والإنسان. وفي السنوات الأولى للثورة الجزائرية أعلن وزير خارجية فرنسا وقتذاك ‘كريستيان بينو' أن ما أسماه التمرد في الجزائر تحركه مساعدات مصرية، وإذا ما توقفت فإن الأوضاع سوف تهدأ؛ قال هذا اعتمادا على وجود مليون مستوطن فرنسي، وعلى أن الجزائر إقليم فرنسي، وترتب على ذلك اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي. وأثناء ذلك العدوان صدر بيان عن جبهة التحرير الوطني الجزائرية يقول: ‘لا ينسى أي جزائري أن مصر الشقيقة تعرّضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية تأييدها للشعب الجزائري المناضل. ولا ينسى أي جزائري أن انتصار الشعب المصري في معركة بورسعيد التاريخية ليس إلا انتصارا لواجهة من واجهات القتال العديدة التي تجري في الجزائر، وأن الشعب الجزائري المنهمك في معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصري الشقيق وبطله الخالد جمال عبد الناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن، وعاشت العروبة حرة خالدة، وعاش العرب تحت راية الاستقلال والعزة والمجد تحررت الجزائر وعادت بلدا واعدا ونموذجا يحتذى لشعوب كثيرة، ومثل تحريرها في نظر المخضرمين بيانا عمليا و'بروفة' لما يمكن أن تكون عليه معركة تحرير فلسطين، وما زالت مواجهة الاستيطان الصهيوني مؤجلة؛ تنتظر ظرفا مواتيا وجيلا يمتلك إرادته وزمام أمره؛ يُحيي مجددا كفاح آبائه وأجداده، وتكون القاهرة قد استردت عافيتها وعادت سندا للتحرر والاستقلال. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أعلنت في القاهرة، وتأسس جيش التحرير الفلسطيني فيها، وأنشئت القيادة العربية الموحدة بمبادرة منها، وأصبحت فلسطين قضية العرب المركزية بالالتفاف العربي حولها، وفي كل ذلك كانت القاهرة لاعبا أساسيا؛ ومتوجة القوة الإقليمية الأكبر، ولم يكن جهد تلك الفترة محصورا في العمل التحرري وأولى اهتماما بالغا بالتنمية الشاملة والزراعة والتصنيع والمشروعات الكبرى وبناء السد العالي، وبالعدالة الاجتماعية وتطبيق الاشتراكية، وقيام مجموعة عدم الانحياز، وواجهت أثناء هذه المرحلة ضربة موجعة بانفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة 1961، وبنكسة مؤلمة في 1967، وترتب عليها إعادة بناء القوات المسلحة ومحاسبة المتسببين في النكسة. كان ذلك هو عُمر عشرينية الثورة من حقبة الستين عاما، بما لها وما عليها، وما أن انتهت حتى أطلت الثورة المضادة برأسها باسم ‘ثورة التصحيح'، ووصلت إلى الحكم واستمرت من ايار/مايو 1971 إلى كانون الثاني/يناير 2011، وفيها أطلق السادات غول التطرف المذهبي والطائفي، وسلح جماعاته بأسياخ الحديد والجنازير والأسلحة البيضاء؛ من أجل التصدي لمعارضيه الطلاب، ومن اطلع على وثائق تلك المرحلة يكتشف أن السادات هو المؤسس الثاني للإخوان بعد مؤسسها الأول حسن البنا. وأضاع السادات في مستهل سنواته العشر الأولى كل قيمة وطنية وسياسية ومعنوية لانتصار تشرين الاول/أكتوبر العظيم، حتى حُصِر في أداء عسكري متميز، مع سقوط سياسي مدوٍ، ترتب عليه تراجع مصر من الاستقلال إلى التبعية، وانتقلت من الوطنية إلى الانعزالية، وهجرت العروبة إلى الصهينة، وتخلت عن ‘دولة الثورة' إلى ‘دولة العثمانيين'؛ المكونة من المقاول عثمان أحمد عثمان في القاهرة، ورشاد عثمان تاجر الأخشاب في الإسكندرية، والإخواني محمد عثمان إسماعيل في أسيوط. واستطاعت الأربعينية الثانية محو آثار العشرينية الأولى، وإذا كان السادات قد سار على طريق عبد الناصر ب'أستيكة' (ممحاة) كما اعتقد عامة الشعب حينها، فإن حكم مبارك في ثلاثينيته التالية سار على نفس الخطى، وأبعد ‘دولة العثمانيين' لتحل محلها ‘دولة بوليسية وعائلية'، انتهت بمبارك ‘كنزا استراتيجيا' للمشروع الصهيوني!!. كيف لزمن الثورة أن يكون هو نفسه عصر الردة والثورة المضادة؛ بنسختيها الساداتية والمباركية؟، وكيف يوضع النقيضان بمستوى واحد، وتحت نفس التصنيف؛ مع ما يحملان من تباين وتناقض؟ أليس هذا تدليسا؟ ومن غرائب ما بعد 25 كانون الثاني/يناير 2011 ذلك التلاقي والتناغم الجامع لقوى تبدو متنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ يوحدها رفض الستين عاما التي سبقت 2011، وما دام الأمر كذلك فماذا لو قام حزب يجمع هؤلاء الرافضين؟!. وفي الحزب المفترض يمكن استيعاب فلول كل العصور؛ بداية بأنصار العصر الملكي، وأحفاد أعوان المندوب السامي البريطاني، وامتدادات ‘أحزاب الأقلية'، وأبناء الإقطاعيين، وخدام رأس المال، وفلول حكم عائلة مبارك، وفلول حكم الإخوان، وفرق الانفصاليين، وجماعات الانعزاليين، وأتباع الفرعونية، وللتوضيح فإن الفرعونية أسطورة مغرية وجاذبة؛ لكنها عنصرية في الوقت ذاته، ومع ذلك ليس هناك من لا تبهره حضارات مصر القديمة، ومن لا يقدرها ويشيد بها، وتلك الحضارات صنعها المصريون القدماء، الذين قالوا الفرعونية لم تكن هوية، وتعني ‘البيت الكبير'، وأطلق على مقر الحاكم أو بيته، وهي صفة ليست لجنس أو لعرق أو جماعة ثقافية قديمة، وكانت نظاما سياسيا ينطلق من ذلك ‘البيت الكبير'؛ مثله النظام الملكي أو الامبراطوري الوراثي أو ما شابه. والشعوب لا تُنسّب إلى نظم سياسية متغيرة أو إلى ممالك عابرة، وللعلم لم يكن كل حكام الفراعنة من أصول مصرية. ومن يقول أن المصريين فراعنة، يصبح كمن يقول عن رعايا الرومان شعب من الأباطرة، أو أن الروس شعب من القياصرة، لكنها روح الغواية التي سيطرت بعد 1971، لإيجاد هوية مصطنعة تتكافأ مع عنصرية صهيونية مقابلة؛ قامت على أساس فكرة ‘شعب الله المختار'، لذا تجد دعاة الفرعونية في مقدمة المطبعين ودعاة السلام على حساب الحق العربي والفلسطيني، وعلى نفس الشاكلة تُخترع ‘قبطية جديدة'، تقحم بديلا للشخصية المصرية، ونقيض لانتمائها الأصلي، وشاع أن ‘القبطية' أصل المصريين، للحؤول دون اندماج الأخوة المسيحيين وانصهارهم في كيان وطني موحد، ولو استمر الأمر على هذا الحال لا انفصمت عرى الوحدة الوطنية المستقرة منذ قرون طويلة. وتحولت إدانة الستين سنة أوراق اعتماد تُقدم طلبا لنيل الود والرضا الأمريكي والأوروبي، وبادر بتقديمها محمد البرادعي؛ طمعا في منصب الرئيس، وكان عليه أن يطعن في عبد الناصر رمز العشرينية الأولى من الستين عاما، ووصفه بالطاغية، وادعى اضطهاده لوالده؛ نقيب المحامين الراحل وأحد أبرز رجال القانون في تلك العشرينية، وكان الوالد مُقَدرا وصاحب حظوة في ذلك الوقت، وقد وصف شيخ التربويين العرب حامد عمار؛ وصف البرادعي الابن بالكاذب، وأن وراءه أغراضا أخرى، هذا إلى جانب أجنحة في جماعة 6 إبريل لا هم لها إلا الطعن في مجمل الستين عاما دون تمييز بين مرحلة وأخرى، ومعهم عدد من منتمين لائتلافات وجماعات محسوبة على الثورة. وأشارت مصادر عليمة إلى أن القوى العاملة على تفكيك مصر راهنت مبكرا على البرادعي ليلعب دورا شبيها بدور غورباتشوف في تفكيك الاتحاد السوفييتي؛ على أن يكون الإخوان هم ظهيره الشعبي، وكان ذلك قبيل أن يقرروا هم وليس هو المنافسة على منصب الرئيس وتعطل ذلك المخطط لتغير الظروف. وعن وضع ثورة يناير في مواجهة ثورة يونيو يعبر عن حالة قصور ذاتي في فهم الثورات، وأنها تتكامل ولا تتناقض، ولا يطعن بعضها بعضا، وحلقات في سلسلة متصلة من الكفاح الوطني، التي توصل كل منها بالأخرى. وأهم ما سيكشف عنه حزب الستين المفترض؛ أهمها أنه من الممكن أن يوظف في تنفيذ مخطط إلغاء الذاكرة الوطنية ومسحها، وقد أعود لاستكمال هذا الموضوع إذا ما سمحت الظروف.