تُظهر التقييمات المنشورة في الصحف ومراكز الأبحاث وتصريحات المسئولين الإسرائيليين حول اتفاق جنيف الموقّع بين إيران ومجموعة (5+1)، أن الاتجاه الغالب هو اعتبار توقيع الاتفاق بمثابة هزيمة لسياسة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وأن التداعيات المحتملة لذلك على أمن ومكانة إسرائيل الإقليمية والدولية، وكذلك علاقتها الخاصة مع الولاياتالمتحدة؛ ربما تكون "كارثية". فعلى مدى ما يقرب من عقد كامل، وضعت إسرائيل سياسة صاغتها في عبارة موجزة: "لا يمكن التعايش مع إيران نووية"، وبالتالي سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 2006 إلى دفع المجتمع الدولي للضغط على إيران، ومنعها من الحصول على التقنية النووية، معتبرةً أن مساعيها تلك لها مشروعية أخلاقية وسياسية في آن واحد. فمن جهة، كانت تصريحات الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد تشير إلى رغبة إيران في اختفاء إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط، الأمر الذي ترجمته الدعاية الإسرائيلية إلى أن هذه الرغبة لا يمكن تحقيقها إلا بحصول إيران على السلاح النووي الذي يمكن استخدامه ضد إسرائيل بدوافع دينية وأيديولوجية، ومن جهة أخرى، حاولت تل أبيب إقناع الولاياتالمتحدة والدول الكبرى في مجلس الأمن بأن إيران النووية ستشكل خطرًا على الأمن العالمي والإقليمي، وأن سعيها للحصول على البديل النووي سيؤجج سباق التسلح التقليدي، كما ينذر بانهيار معاهدة الحد من الانتشار النووي إذا ما تنافست عدة بلدان شرق أوسطية مع إيران في الحصول على التقنية النووية. أثمرت سياسة تكثيف الضغط الإسرائيلي على الدول الكبرى بتبني الولاياتالمتحدة سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد إيران، ثم انتزاع تصريح من الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن الخيار العسكري لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي سيبقى على الطاولة، كما تواكب ذلك مع تشديد العقوبات الاقتصادية ضد إيران عن طريق مجلس الأمن. وخلال نفس الفترة، حاولت إسرائيل أن تضع الدول الستة التي تتفاوض مع إيران تحت ضغط آخر، وهو أنها -أي إسرائيل- ستذهب إلى خيار توجيه ضربة عسكرية منفردة لإيران في حال تراخت الدول الكبرى في تجريدها من قدراتها النووية، أو تم رفع العقوبات عنها دون أن تتخلى بالكامل عن طموحاتها في هذا المجال. في هذا الإطار، يمكن فهم لماذا علت بعض الأصوات في إسرائيل معلنة عن أن اتفاق جنيف يمثل هزيمة للسياسة الإسرائيلية عامة، ولنتنياهو خاصة (كونه أكثر رؤساء الحكومة خلال السنوات العشر الماضية تشددًا في هذا الملف). ما الذي ترفضه إسرائيل في اتفاق جنيف؟ ثمة تشكيك من الناحية الأولية في أن الاتفاق لم يكن واضحًا أو قاطعًا في قضايا محددة، مثل: هل اعترفت الدول الغربية التي فاوضت إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم أم لا؟. تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تشير إلى أن الاتفاق أقر بحق إيران في ذلك، بينما نفى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الإقرار بهذا الحق في أيٍّ من بنود الاتفاق. العودة إلى الاتفاق تشير إلى أن إيران قدمت تنازلات كبيرة، سواء في القبول بمعدلات منخفضة لتخصيب اليورانيوم، حتى مستوى أقل من 5%، مع إيقاف البناء في عدة مفاعلات، والسماح للوكالة الدولية للطاقة النووية بتفتيش المنشآت النووية الإيرانية، غير أن إسرائيل ترى أن الأمر كان ينبغي أن يتجه نحو إرغام إيران على وقف عمليات التخصيب كلية، وتفكيك المشروع في جانبه المؤهل لتحويل القدرات النووية المدنية إلى قدرات نووية عسكرية. أما بقية الاعتراضات الإسرائيلية فقد انصبت على التالي: -أن العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على إيران خلال السنوات الماضية هي التي أجبرتها على الجلوس على مائدة التفاوض، ومن ثم، كان استمرار العقوبات -بل وتشديدها- ضروريًّا حتى تقبل إيران بتفكيك المشروع النووي الخاص بها بالكامل، وأن ذلك كان متوقعًا لولا الإسراع بدون مبرر نحو عقد الاتفاق من جانب الدول الغربية. -أن رفع العقوبات جزئيًّا مقابل اتفاق مرحلي سيقلل الضغوط على إيران بما يجعلها قادرة على رفض الدخول في مفاوضات للحل الشامل مع انتهاء فترة الستة أشهر التي يحددها الاتفاق، أو بحسب الصياغة الإسرائيلية: هناك تخوفات من أن يتحول الاتفاق المرحلي لاتفاق دائم يجعل إيران "دولة شبه نووية" يمكن أن تتحول سريعًا وبشكل مفاجئ إلى قوة نووية عسكريًّا. -أن الاتفاق المرحلي سيعيد إدماج إيران في الأسرة الدولية، ويسمح لها بشراء ما تحتاجه من معدات يمكن أن تخدم مشروعها النووي العسكري دون أن يكون للمجتمع الدولي القدرة على مواجهة سياسات الالتفاف على العقوبات التي تنتهجها بعض الشركات الكبرى المنتجة لسلع وخدمات لها استخدامات مزدوجة عسكريًّا ومدنيًّا. - أن النظام الإيراني الذي يهدد بمحو إسرائيل من الخريطة لم يغير خطابه العدائي تجاه الدولة العبرية، كما أن تاريخ إيران في إخفاء أنشطتها النووية عن الوكالة الدولية والدول الغربية التي فاوضتها لا يجعل إسرائيل مطمئنة لالتزام إيران بخطوات معينة في الاتفاق المرحلي، كما لا يمكنها الثقة في قبول طهران بدخول مفاوضات أخرى للتوصل إلى حل نهائي يزيل الخطر الوجودي عن إسرائيل. أسباب فشل تل أبيب؟ لم تقم السياسة الإسرائيلية على أسس واقعية فيما يتعلق بمعالجة مخاطر المشروع النووي الإيراني على أمنها، ولذلك كان من المحتم أن تفشل إسرائيل في منع الدول الغربية من التوصل إلى اتفاق مع إيران، وذلك للأسباب التالية: - شرخ المصداقية: إذ تمتلك إسرائيل -وفقًا لتقارير دولية موثقة- ترسانة نووية، حتى وإن أصرت على إنكار وجودها، كما أنها إحدى الدول القلائل غير الموقعة على اتفاقية منع الانتشار النووي، وبالتالي يبدو تشددها في ضرورة حشد المجتمع الدولي لإجبار إيران على التخلي عن طموحاتها النووية مفتقرًا للاتساق الأخلاقي، وهو ما جردها من قوة الحجة القائلة بأنها وحدها المعرضة لهجوم نووي إيراني، ومن حقها أن تسعى لتفاديه، إذ ينطبق الأمر ذاته على العديد من دول الشرق الأوسط التي تخشى الترسانة النووية الإسرائيلية. - السياسة المفرطة في الذاتية: انطلقت السياسة الإسرائيلية -وخاصة في عهد نتنياهو- من مبدأ أن تجريد إيران من قدراتها النووية لا يحقق أمن إسرائيل وحدها، بل أمن العالم كله، باعتبار أن التهديد النووي الإيراني يهدد السلم الإقليمي والعالمي بسبب الطبيعة الثيوقراطية للنظام الحاكم فيها، غير أن إسرائيل لم تقدم تفسيرًا مقنعًا لحتمية معالجة هذا الملف وفقًا للتصور الإسرائيلي وحده، وإنكار حق من اعتبرتهم مهددين من جراء نفس المشروع في البحث عن طرق أخرى لمعالجة هذا الخطر. - المنظومة الدولية، حيث لم تنظر إسرائيل إلى حقيقة أن المنظومة القانونية الدولية تسمح لكافة الدول بالحصول على التقنية النووية للأغراض السلمية، وأن منع إيران من الحصول على هذا الحق هو إخلال بهذه المنظومة، مما كان يعني دفع الإيرانيين نحو مزيد من التصلب في ظل شعورهم بالظلم وازدواجية المعايير التي تطبق في هذا المجال، كما أنه يهدد بشكل مباشر التزام الدول الموقعة على اتفاقية منع الانتشار، والتي ستشعر بالقلق من احتمال تطبيق نموذج حرمان إيران من القدرات النووية السلمية عليها في مرحلة أو في مواقف محددة مستقبلا. - لم تأخذ إسرائيل حقيقة الميل المتزايد في الولاياتالمتحدة في عهد أوباما وأيضًا في الدول الغربية الكبرى نحو حل المشكلات المهددة للأمن والسلم الدوليين عبر المفاوضات والحوار، وليس عبر القوة والتدخل العسكري، نتيجة الخبرات السيئة في أفغانستان والعراق وليبيا، وبالتالي لم تراعِ إمكانية أن يؤدي تجاهلها لتلك الحقائق إلى مزيدٍ من الإصرار لدى هذه الدول لتجاهل التشدد الإسرائيلي في هذا الجانب، وهو ما حدث بالفعل، وأدى إلى الشعور بمزيد من الإهانة في إسرائيل بعد توقيع الاتفاق. - التعامل الإسرائيلي مع القوى الغربية، حيث تعاطت تل أبيب مع الدول الغربية كما لو أنها دول متخلفة لا تعرف كيفية التفريق بين تقنية نووية يمكن أن تقود إلى صناعة سلاح نووي يسهل توجيهه إلى الخصوم، وبين تقنيات أخرى تحقق رغبة إيران في الحصول على التقنية النووية السلمية ولا تقودها بالضرورة إلى تصنيع أسلحة نووية. وفي هذا الصدد قال عضو الكنيست سابقًا عن حركة ميرتس، وهو في الوقت نفسه بروفيسور في الفيزياء النووية "عوزي إيفن" في جريدة معاريف 26 نوفمبر 2013: إنه لا يعرف لماذا تهاجم إسرائيل الاتفاق، فحتى تخصيب اليورانيوم عند مستوى 20% سينتج سلاحًا يشبه القنبلة المستخدمة ضد هيروشيما ونجازاكي باليابان عام 1945، وأن هذه القنبلة لا يمكن تحميلها على الصواريخ العابرة للقارات أو البعيدة المدى نظرًا لضخامة حجمها، ثم أضاف قائلا: إن التهديد النووي الأخطر ينبع من نية إيران تطوير سلاح نووي استنادًا إلى البلوتونيوم الذي ينتج من المفاعل قيد الإنشاء في أراك قرب أصفهان، ويفترض انتهاء إنشاء المفاعل في 2014، وهو سينتج البلوتونيوم بكمية قنبلتين في السنة. فلماذا يعد هذا هو التهديد الأخطر؟ لأن القنابل النووية التي تقوم على أساس البلوتونيوم صغيرة بما يكفي لتركيبها على صواريخ شهاب الإيرانية التي يمكنها الوصول إلى إسرائيل. في الاتفاق المرحلي الموقع تعهدت إيران بوقف كل أعمال البناء في هذا المفاعل. وفي نظري، كان هذا الاختبار الأهم لنوايا إيران، وإذا ما نُفذ الاتفاق (تحت الرقابة) فعندها يكون تهديد جسيم أزيل من فوق كاهلنا". - لم تُقدم إسرائيل إجابة مقنعة عن السؤال الأساسي، وهو: ما الذي كان سيدفع إيران للقبول باتفاق يؤدي إلى تفكيك مشروعها النووي -كما تريد إسرائيل- قبل رفع العقوبات المفروضة عليها؟، وما هي ضمانات ألا يزيد ذلك الإيرانيين تصميمًا على حيازة سلاح نووي بدلا من حثهم على قصر أنشطتهم على الأغراض المدنية للطاقة النووية؟. التحركات المستقبلية لإسرائيل فشل إسرائيل في منع الاتفاق مع إيران جعل معظم خبرائها يشددون على ضرورة وضع سياسات يكون هدفها في المرحلة المقبلة، على حد قول الباحث أوري هايتنر في إسرائيل هايوم، 26 نوفمبر 2013: "إن التسوية المرحلية مع إيران حقيقة، ولم ننجح في منعها، ولا يمكن إلغاؤها أو تغييرها، ولن تستطيع إسرائيل في أشهر التفاوض في التسوية الدائمة الستة أن تستخدم القوة ضد المشروع النووي الإيراني، ولهذا يجب على إسرائيل أن تستغل هذه الأشهر الستة لتؤثر بكل طريقة في التفاوض الذي ستجريه الولاياتالمتحدة والغرب كي تكون نتائجه مختلفة عن نتائج الاتفاق المرحلي؛ فلا تكون تسوية يحتوي فيها العالم إيران باعتبارها دولة على حافة القدرة النووية، بل اتفاق يجرد إيران من قدراتها النووية، وإذا لم يوجد شريك في هذا الاتفاق فيُفضل ألا يوجد اتفاق. ويبدو من هذا الطرح الذي تتقاسمه معظم الأصوات الرافضة للاتفاق في إسرائيل، أن السياسة المقبلة لن تختلف عن سابقتها التي أفشلت إسرائيل ومنعتها من تحقيق أهدافها، فهناك نصائح قدمها الخبراء بضرورة وضع خيار الضربة الإسرائيلية المنفردة ضد إيران على الطاولة مرة أخرى، والبدء في شن حرب ضروس على الإدارة الأمريكية، ومحاولة شق الإجماع الأوروبي، واستغلال قوة اللوبيات اليهودية في أمريكا وأوروبا لمنع الوصول إلى اتفاق نهائي مع إيران لا يرضي إسرائيل. غير أن احتمال فشل هذه السياسة قد لا يقود فقط إلى إخراج إيران من عزلتها بإرادة دولية؛ بل قد يؤدي أيضًا إلى تعميق عزلة إسرائيل دوليًّا، وإلى مزيد من التدهور في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، كما يساعد إيران على استعادة تعاطف شعوب المنطقة العربية معها، وأخيرًا فإن فشل نفس السياسة سيقود إلى تغيير البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل عبر تمكين إيران من المنافسة على مكانة القوة الإقليمية العظمى صاحبة الخبرات النووية المتقدمة، الأمر الذي يقلص من الإمكانيات التي كانت تلوح بعد سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، والتي كانت تعطي ميزة نسبية لإسرائيل مع تدني قوة الدور التركي، واستمرار عزل إيران إقليميًّا ودوليًّا، وبمعنى مختصر إسرائيل تبدي غضبها من اتفاق جنيف ليس لأنه لم يعالج مخاوفها الأمنية بقدر غضبها مما يرتبه من فك العزلة عن إيران على الدور الإقليمي المنتظر لإسرائيل مستقبلا. سعيد عكاشة باحث متخصص في الشئون الإسرائيلية