(يسترخي الجنرال على الكرسي الهزاز ويتأرجح صامتاً لبرهة من الوقت، الإضاءة تومض وتنطفئ) من أنا؟ أنا الجنرال من؟ جنرال متقاعد مطيع عبد المهيمن (ينهض، الإضاءة تنتشر) حولي كثيرون لكنني في العتمة.. كابوس يضللني كي لا أعرفني.. كلب مبلول يلهث في مخبئه، يلعق جربه.. أعيش صورة كاذبة لشخص آخر، أنا لست أنا، دائما لست أنا. أختار شيئاً آخر غير ما كنت أريد، أعيش في أماكن لم أفكر قط في العيش فيها.. حياتي كلها كانت مرتبة ومضبوطة دائما لفعل شيء ما، لكنه أبداً ليس الشيء الذي أريد(يطالع المرآة) ليس هذا وجهي.. ليس هو الوجه الذي أتخيله عن نفسي، هذا الصوت ليس صوتي! (يرفع البدلة المعلقة في يده، يتحرك أمامها وخلفها، يخاطبها كأنها شخص آخر) كل يوم تزداد المسافة بيني وبين الشخص المزيف الذي أستجيب لطلباته. هوة عميقة بين الرسام الذي يهوى منظر الغروب ولم أكنه.. والجنرال الذي كنتُه ولا أعرفه. (يضرب على مواضع مختلفة في جسده) جسدي غريب عني.. جسدي مكان يسكنه شخص آخر لا أعرفه.. غرفة ” ترانزيت ” لشبح غامض، قاتل.. مجنون.. ذليل.. ساحر.. ساخر.. شرير.. قديس... غرباء يتمددون فيّ.. يمرون علي كالغرفة المستباحة المسكونة بهواء فاسد.. غربان... غربان سوداء تنعق في صدري. (يتلتف حوله كالمجنون) هل نحن اثنان في جسد واحد؟ هل أعرفه أو يعرفني؟ أحتاج الآخر، أحتاج.. ماذا أحتاج؟ شخص ما يقول لي: أهلاً وسهلاً.. أنت فعلاً وسيم، يقول لي “أحسنت”.. أي كلام بسيط كالذي يتبادله العابرون.. لا أحد يقول لي شيئاً إلا لكي أقول له شيئاً أفضل.. الكل يريدك.. يسحبك نحوه لتكون صدى له!(يعيد البدلة إلى مكانها، يتأرجح) لماذا نتقاتل أنا وأنت؟ اهدأ، اتركني أَهدأ، ابدأ في مكان آخر بعيداً عني، دعني أَبدأ.. ما هذا الصوت؟ إنه أنت يا لعين.. ليس أنا.. تقول إنك معذب في داخلي.. تريد الانعتاق مني.. أتعبتُك كثيرا وأتعبتني، لا أنا هو ولا هو أنا.. لا أنت هو.. ولا أنت أنا.. لكننا نمشي في طريق أبدي.. نسكن جسداً واحداً.. نحلم حلمين، نقول كلامين! (يعاود السير بخطوة عسكرية نشطة وهو يهز يديه هزاً عنيفاً مع فلاشات ضوئية) هابيل قابيل، الإنسان الذئب، الروح الجسد، النور الظلام، أنا.. أنت.. الدور أي دور ينقسم دورين.. الكل كسور والكسور تتلاشى. لماذا نبقى منقسمين في أحلامنا ورغباتنا؟ لماذا يجبر كل منا الآخر على قول مالا يريد، فعل ما لا يرغب؟ لن نتفق، لا تتعب نفسك، أنا خفي أنت ظاهر، أنا لست ملتزماً بعمل وأنت ستبقى إلى الأبد توقع في دفتر الحضور والغياب! (يواجه صورته في المرآة) ماذا تريد مني؟ ألهث في كل الطرق وحيداً وحشاً منكسراً مكسوراً منشطراً مشطوراً كافراً مؤمناً حائراً ضائعاً قاتلاً مقتولاً. اللعبة تعيد نفسها، أنا وهو نتكلم في صوت واحد، صوت غليظ مزدوج.. رهيب.. هذا رهيب، إذا تكلمت معك بصوت واحد تغضب، إذا كنا صوتين يرعبك انشطار الواحد، ماذا أفعل؟ نتكلم في صوت واحد، تخرج كلمتين، هذا رهيب.(يدور في رقصة صوفية على طريقة المولوية) نحن عالقان في دائرة واحدة، كلانا يتجه إلى الآخر مشدوداً إليه، ملتصقاً به.. كالموجة تفر من الموجة وهي تحضنها. لا تفكر في نفسك كحيوان. أنت إنسان تخطيء لكن لا تتعمد.. سامح نفسك لا تعذبها. لن أجبرك على شيء يغضبك.. ويخرج أسوأ ما فيك.. نحن نحمل نفس الصوت.. نفس الألم. (يختبئ تحت الكرسي) سأغادر هذه اللعبة المجنونة.. اللعبة تعيد نفسها، هؤلاء وأولئك، أنا أم أنت؟ الجنرال أم الرسام؟ من الرئيس من الجنرال؟ (صوت مونولوج إسماعيل ياسين: أبو عرام يشبه علي بابا.. وعلي بابا شبه أبو عرام) لتكن هدنة، ليوم، يومين، هدنة أستريح فيها من البكاء والصراخ والحزن والانشطار والتآكل والكذب والنفاق والتسويف والتبرير.(يقف في ثبات ويبدأ في ارتداء بدلته كأنه يستعد للذهاب إلى حفل عسكري) عشت حياتي كلها في حلبة عنيفة لمصارعة الديوك.. (يعلق النياشين بتأن) في فمي ألف بصقة، مرارات سممت روحي.. أن تكون رئيساً أو جنرالاً فأنت صديق للقتل والخيانة.. تاريخ طويل من الدم والمؤامرات.. ليس لأن الرؤساء والجنرالات سيئون.. بل لأن البشر خونة وقتلة بالفطرة. (يرتدي حذاءه العسكري والكاب) لم أعش مع ابني و زوجتي قدر ما عشت مع الرئيس.. لسنا سوى اسمين لشخص واحد ينام في مكانين منفصلين.. عقل وقلب واحد في جسدين.. أنا هو.. هو أنا. (صور كثيرة للرئيس في أزياء تنكرية مختلفة تهبط من أعلى وتحاصره) أخيراً.. وصل سيد الحفلة التنكرية(يؤدي التحية العسكرية للصورة) عذراً سيدي الرئيس (يتحرك بكامل هندامه العسكري وسط الصور المتدلية) أنت كنت الزعيم الملهم.. الذئب النبيل.. الرجل الفولاذي.. هل تود أن تسمع المزيد من هذه الكليشهات الجوفاء؟ (يلامس صورة الرئيس) وأنا المسئول عن نشر الشائعات حول إصابتكم بالسكري والانزلاق الغضروفي وسرطان البروستاتا والمرارة والشلل الرعاش.. أنا “الصيد الكبير” الذي سرب الصور المفبركة لفخامتك وأنت نائم في المؤتمر المركزي للحزب.. وتلك الصورة وأنت نصف عار تداعب السكرتيرة الشقراء في المكتب الرئاسي! لا تخف.. أنت رمز.. ستبقى صورك خالدة على جدران المدارس والمستشفيات والشوارع والجامعات والجوائز والعملة.. حتى دورات المياه العامة وغرف النوم. (يتناول عصا المارشالية ويشير بها نحو صورة الرئيس وهو يرشف البيرة) من حقي أن أبصق على هذه الطلعة البهية (يهم ثم يتراجع ويغير نبرته) من حقي أن أنتقم لابني وزوجتي.. آن لك أن تستريح.. الأمر كله لا يكلف أكثر من بضع قطرات مركزة في شوربة الدجاج.(يخزق وجه الرئيس في الصورة بسكين صغيرة) أرأيت أي صرصار قادر على ثقب صور فخامة الرئيس؟! (يتوجه إلى أشخاص غير موجودين) موسيقى.. هيا يا كلاب.. ها هو سيد الحفلة التنكرية يطل علينا يباركنا من السماء.. اعزفوا بعنف.. بإخلاص.. لتكن الأضواء مبهرة جداً.. قوية جداً.. حتى لا يسمع أحد أي شيء.. لا يرى أي شيء.. لا يفهم أي شيء.. هيا الحفلة مستمرة في القصر.. هيا هيا.. هيا يا كلاب (ضوء شديد جداً وموسيقى عالية.. يعقبها صمت وعتمة، خطوات عسكرية منتظمة) صوت الجنرال: كل محطات حياتي كانت صراعات في العتمة.. عشرات الجنرالات في مصارعة دموية بالمخالب والمناقير والريش والصياح.(الإضاءة تومض وتنطفئ مركزة حول الجنرال وهو يجلس في منتهى الشموخ بزيه الكامل على الكرسي، الكاب على رأسه وعصا المارشالية متقاطعة على صدره.. يتأرجح في لا مبالاة ويرشف البيرة مع موسيقى وترية خشنة).. صرخة مقابل صرخة.. خازوق مقابل خازوق.. خيانة مقابل خيانة.. ضربة مخلب مقابل ضربة مخلب.. نقرة بالمنقار.. نقرة بالمنقار.. قفزة إلى أعلى.. قفزة إلى أعلى.. الرأس في الرأس العنيد (يقذف علبة البيرة مع انتشار الإضاءة و ارتفاع الموسيقى.. يبدأ في الرقص على رجل ورجل، كأنه ديك يقف على جمر ويتقافز).. يسقط ديك.. يدخل الحلبة ديك أكبر.. يصفق الجمهور.. لا أحد ينجو.. إلا الرئيس.. هو الحكم و صاحب الحلبة وسيد الحفلة التنكرية.. هو من يقرر أي ديك ينتصر.. طالما أنك لست الرئيس.. فأنت الثاني.. كل ثان له خصم.. ديك مشاكس يتربص بك.. الديك لا يفرح بالنصر أبداً (يرفع رأسه لأعلى، كأنه قائد روماني في الحرب) أسوأ الثأر.. أن تجد نفسك مضطراً للثأر ممن أحببتهم وأحبوك! لا أحد يسمح لك بالرقص إلا في نهاية السباق.. الديكة لا ترقص إلا رقصتها الأخيرة بعد ذبحها من العنق.. تعلق الروح في المسافة بين الرأس والجسد.. لا هي هنا.. لا هي هناك.. حينها يرقص الديك.. يرقص من الألم.. من الغدر والخيانة.. ينثر دمه وريشه فوق خطواته الأخيرة.. (يرقص ويرقص.. إلى أعلى.. إلى أسفل.. كمن يتقافز فوق الجمر.. كالعالق بين السماء والأرض).. رقصة الوداع الأخيرة.. ما أتعسنا نعيش حياتنا معكوسة: ندرك أننا ذاهبون نحو النهاية.. ورغم ذلك نتوق إلى الغد بشدة.(يستمر جسده في الرقص مع اختفاء رأسه تماماً.. ثم يتلاشى كل شيء وتعم العتمة) صوت الجنرال: هذا ليس أكثر من كابوس طويل.. غداً سأري الشمس، رائحة الياسمين وزقزقة العصافير.. في السابعة صباحاً سيوقظني رئيس الديوان برفق: “سيدي الرئيس.. سيدي الرئيس” إذن أنا الرئيس.. أنا الرئيس (الإضاءة تومض وتنطفئ بينما الجنرال يتأرجح في الكرسي الهزاز) ما أعيشه ليس سوى كابوس مزعج ثقيل.. هذه الأفكار الشريرة بؤر شيطانية في الدماغ بفعل السكر والإرهاق. (في حالة هذيانية ينهض، يقلد حركات الصراصير وهي ترقص بمصاحبة الموسيقى) أنا الرئيس يا كلاب.. يا خونة.. أين عشيقة القصر؟ أين جنرالي القوي الأمين؟ (حالة سكر وإعياء شديد، يتداعى وهو في كامل أناقته العسكرية، يبدأ في الالتفاف حول جسده، ينهار.. عيناه زائغتان شاخصتان.. نظرته بطيئة وشاردة.. يدور في حلقة مفرغة وقد فقد توازنه.. عشرات الصراصير تحاصره، تنقض عليه في رقصة تعبيرية.. يستسلم لها أخيراً فتحمله على أكتافها كأنها تشيعه إلى مثواه الأخير بمصاحبة مارش عسكري جنائزي. الإضاءة تومض، تنطفئ.. الصراصير تدور به في جوانب المخبئ.. من أعلى تتدلى مجموعة مختلطة من صوره و صور الرئيس، سماعات التلفون والراديو والصحف وعصي المارشالية.. الصراصير تغادر المكان بالجثمان).