في الحلقة الأولى من حوارنا مع الكاتب والصحافي المصري المقيم بروسيا- الدكتور أشرف الصباغ، تحدث ل«البديل» عن أزمات السياسات الثقافية المصرية منذ 60 عامًا، موضحًا كيف عملت في اتجاه مضاد للثقافة الوطنية؛ غير أن الحوار معه لم يكن ينتهى بالإجابة عن السؤال الموجه له، إلا ليفتح أسئلة أخرى يوجهها للمسئولين عن العمل الثقافي تارة، ولعموم المهتمين بالثقافة المصرية تارة أخرى، في مواجهة حقيقية ومؤلمة مع الذات. إلي نص الحوار: - "ماذا كانت وزارة الثقافة تعمل منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين"، هكذا تساءلت، وأكدت أن القضية تتعلق بمفهوم "السياسة الثقافية"، هل يمكن أن أطرح عليك السؤال بدوري بصيغة أخرى: هل أظهر القائمون على الثقافة في مصر منذ منتصف السبعينات، "سياسات ثقافية" واضحة، أم كيف جرت الأمور في رأيك؟ الأمور لم تجر في أي اتجاه سوى إلى الأسفل. لقد بدأت عمليات تجريف ثقافي للمؤسسات والثقافة على حد سواء. وهذا الأمر، وأكرر، ليس له علاقة بالمثقفين ولا بالاشتباكات الثقافية الجارية والقائمة منذ تلك الفترة. فالحديث عنها يجب أن يكون منفصلا نسبيا، لأنها قضية شائكة وأكثر تعقيدا. لا يمكن أن ننكر أنه كانت هناك سياسات ثقافية ذات توجهات خاصة جدا تتمحور حول تهميش أو إلغاء الثقافة الوطنية، بتنوعها وعمقها وتعدد مشاربها. وكانت سياسات الدولة تستخدم مؤسسات وزارة الثقافة وتوجهاتها في هذا الغرض. وكان هناك جانب مهم في هذه المعركة يتلخص في عملية انتقامية شديدة الوطأة من مرحلة الخمسينيات والستينيات والمشروع الوطني في الثقافة. فتم تفريغ كل شئ من مضمونه باختفاء المنهج والبرامج أو وضع مناهج وبرامج شكلية وروتينية، وتحولت المؤسسات الثقافية إلى مجرد أبنية وهياكل وظيفية تؤدي مهمة لا تتسم بالنوعية. ولعل فشل السياسات الثقافية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان الباب الأوسع الذي دخل منه المتطرفون وثقافة التطرف إلى المؤسسات الثقافية والعمل من أسفل. وكانت الدولة متواطئة بدرجات كبيرة مع تلك التيارات اليمينية الرجعية المتطرفة مقابل هدنة من نوع ما وعدم التدخل في "السبوبة الاقتصادية" لدولة السادات ومن بعده مبارك، بما في ذلك وزارة الثقافة وأموالها المهدرة. ومع الوقت تحولت الثقافة كمنظومة مفاهيم، بفعل السياسات الثقافية القائمة آنذاك، إلى شكل من أشكال السياحة الذي اقتصر على تحسين صورة مصر أو تبادل الوفود والمهرجانات، أو في البهرجة المبالغ فيها والتي كانت عنوان التطور الثقافي للدولة. يمكن أن نستسهل ونقول أنه لم تكن هناك سياسات ثقافية. ولكن للأسف، كانت هناك سياسات ثقافية تعمل ضد الثقافة عموما، وضد الثقافة الوطنية على وجه الخصوص. لدرجة أنها مع مرور الوقت، ومع تغلغل التيارات الظلامية في المؤسسات، أسفرت عن ثقافة أحادية معادية لطبيعة التنوع الثقافي المصري. ما انعكس على المجتمع في ما بعد. وأعتقد أننا نرى نتائجه الآن. وفي كل الأحوال لا يمكن أن تتطور الثقافة والمؤسسات الثقافية بمعزل عن التيار العام للتطور في الدولة في كافة المجالات والقطاعات الأخري، وإلا سنخدع أنفسنا. لنذهب إلى الناحية الأخرى، من العمل الثقافي.. - المؤسسات "المستقلة" التي تعمل في مجالات "التنمية الثقافية"، خلال السنوات العشر الأخيرة، لم تحقق حتى الآن تأثيرًا ملحوظًا في الثقافة المصرية، وانقسمت الآراء حول ذلك؛ فريق يرى أن إخفاقها، يرجع لاهتمام القائمين عليها بالمصالح شخصية والانتفاع بالتمويلات فقط، وتلازم مع ذلك مصطلح "مؤسسات السبوبة"، بينما الفريق الأخر يرى أن التمنية الثقافية أمامها عوائق كثيرة، فضلا عن محاربة الأنظمة الحاكمة لتلك المؤسسات؛ مع أي من الفريقين تقف، أم أن هناك رأي أخر؟ لنتفق أولا على أنه لا يمكن ل "وزارة الثقافة" أن تنتهج سياسات معادية ل "الدولة"، لأنها ببساطة إحدى مؤسساتها. وأنا لست مغرما بالأسماء والتسميات، من قبيل الثقافة البديلة والثقافة المستقلة. هناك ثقافة بمعناها الواسع والإنساني العام. وهناك أيضا ثقافة وطنية كمصدر ومنبع مثل كل المصادر والمنابع في كل دول العالم. وبالتالي، فعندما تفشل أي دولة في استثمار مواردها الثقافية، فمن الطبيعي أن تبحث كل جماعة ثقافية عن ما يسمى ب "الدعم الثقافي". وهناك دول كثيرة تعمل على هذا المحور تحديدا كمفتاح لتحقيق مصالحها. وليس بالضرورة أن تكون كل هذه المصالح ضارة بالثقافة المصرية أو اختراق أو تجسس. ولكن أن تكون هناك تلك المساحة الهائلة للدعم الأجنبي للثقافة في مصر، فهذا خطأ الدولة وفشلها. إذا كانت الدولة قد قررت التخلي عن دورها في هذا المجال تحت شعارات براقة من قبيل الانفتاح وإتاحة الفرصة و"التلاقح الثقافي"، فهذا لا يعني أبدا أنها صادقة وتعطي الأولوية للقيم الثقافية الإنسانية العامة. بل يعني في حالة السياسات الثقافية في مصر، الفشل وإعطاء الأولوية لقطاعات أخرى تتفق مع سياسات الفساد الاقتصادي والنهب والتجريف الثقافي والعلمي. صناديق ومؤسسات التنمية الثقافية سواء العربية أو الغربية تنفذ سياسات معينة منها المفيد ومنها غير المفيد أو الذي يتم توظيفه لأغراض ليست هي المعلنة، ومن حقها أن تفعل ذلك، طالما هناك دول فاشلة، وطالما هناك جماعات ومجموعات ثقافية لديها مشاريع لا تستطيع تحقيقها في بلادها. بين هذه المجموعات يمكن أن نجد الجيد والسئ، الصالح والطالح. هذا أمر طبيعي. أما مسألة فشل هذه المؤسسات والصناديق، فربما يعود إلى أسباب أخرى كثيرة غير الاستسهال و"السبوبة". من ضمن هذه الأسباب، الضغوط الحكومية عليها وعلى العاملين فيها، وعدم تقديم العون اللازم لهم وعدم تسهيل مهامهم. بل وأحيانا تصل الأمور إلى اتهامهم بالعمالة والتجسس وعدم الوطنية. كما أن المصريين بطبيعتهم لا يتقبلون مثل هذه النشاطات بارتياح. هناك دائما حالة من التوجس، خاصة وأننا نعرف جميعا نسبة الأمية الأبجدية، ونسبة الأمية الثقافية، ونسبة الفقر والجهل في مصر. وفي الحقيقة، لا يمكن أن نلقي باللوم على هذه الصناديق والمؤسسات ونتهمها بالفشل، بينما هناك في الدولة وزارة ثقافة ومؤسسات ثقافية تنتشر مثل الفطر في كل مكان، بينما نتائج عملها متواضعة أو معدومة أو مشوهة. وأعتقد أن "السبوبة" في وزارة الثقافة ومؤسساتها أكبر بكثير وأكثر انتشارا منها في مؤسسات وصناديق ما يسمى بالتنمية الثقافية الأجنبية. إننا نشبه تلك الدولة التي تسمح للأجانب بتبني أطفالها، وفي الوقت نفسه تتفاخر بأنها أعظم دولة في العالم وفي التاريخ. وعندما يعتدي الآباء الجدد على الابن أو البنت بالتبني أو يرتكب الأبناء أي خطأ، نقلب الدنيا رأسا على عقب ونطلق الاتهامات جزافا. وبالتالي، إذا كانت الدولة قد قررت انتهاج سياسة التخلي عن الثقافة، فعليها أن تحدد بالضبط معالم الخريطة السياسية الثقافية لديها، وكذلك مهام المؤسسات الثقافية وتبدأ بعمليات هيكلة دقيقة ومحسوبة وواسعة النطاق، لا أن تتركها في مهب الريح. - هل توجد تلك المسميات -الثقافة المستقلة، مؤسسات التنمية الثقافية- في روسيا، وهل لتلك الكيانات دور مؤثر في الثقافة الروسية؟؟ طبعا توجد كل هذه التسميات وأكثر من ذلك. ولكن علينا ألا نغرق كثيرا في المقارنة لأن روسيا ليست مصر لأسباب كثيرة كلنا يعرفها. وهذه المسميات ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بكثرة. علما بأنه في عهد الاتحاد السوفيتي كان القليل منها موجود، وربما بشكل سري. ولكن بعد الانهيار واختفاء الدولة السوفيتية، ظهرت جماعات ثقافية وفنية، ومؤسسات محلية في مواجهة السياسات القائمة. وبدأ الغرب يطلق أيضا مؤسساته وصناديقه وجمعياته في المجتمع الروسي. في البداية، واجهت هذه الصناديق والمؤسسات مقاومة هائلة من السلطة السياسية والمؤسسات الثقافية التابعة لها. ولكن مع مرور الوقت تم "تطبيع العلاقات" وبدأ نشاط هذه المؤسسات ينحسر بنتيجة وضع سياسات ثقافية تعمل لصالح الثقافة المحلية عموما، والوطنية على وجه الخصوص. ومع ذلك، فهذه المؤسسات تعمل في روسيا وتواجه صعوبات تختلف عن الصعوبات الموجودة في مصر بطبيعة الحال. في كل الأحوال، لا يمكن أن تلعب مؤسسات وصناديق وجمعيات التنمية الثقافية الأجنبية دورا رئيسيا في أي دولة، وإلا انهارت الثقافة الوطنية والمحلية. كل ما في الأمر أنها تلعب دورا مساعدا في تحريك المياه الراكدة، وتصنع حالة من المنافسة والتنوع. عموما، النهضة القومية والوطنية لم تتحقق أبدا بالكلام والطبل والزمر وأن الشعوب هي أعظم شعوب الدنيا وتاريخها ضارب في القِدم وجغرافيتها نادرة. النهضة القومية والوطنية تأتي عبر "فكرة قومية" ووطنية قابلة للتحقيق، وبالتخطيط والمشاريع التنموية، واستثمار موارد الدولة، وعلى رأسها الطاقات البشرية، بعقلانية واهتمام. وبلورة "فكرة قومية مصرية" أصبحت مسألة ملحة وضرورية ولا يمكن أن تبدأ أصلا إلا بالتخلص من الأوهام حول الذات وإجراء مواجهة صريحة وشفافة وقاسية ومؤلمة مع النفس. مستقبل الثقافة يتوقف على صدق المواجهة مع الذات.. إن مصر الآن في وضع سيئ للغاية بنتيجة عوامل كثيرة يرجع بعضها إلى ما قبل 25 يناير 2011، ويرجع البعض الآخر إلى فترة السنوات الثلاث الأخيرة. وربما تكون المهمة الملحة حاليا أمام القاهرة، هي الوقوف مع نفسها في مواجهة صريحة وحقيقية ومؤلمة. فماذا لدى مصر من عناصر القوة الكامنة: الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والثقافة والتكنولوجيا والسياسة والقوة العسكرية الحقيقية؟ ماذا لدى مصر من عناصر القوة الفعالة أو المؤثرة: الإرادة السياسية والعقلية الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي طويل المدى؟ إن حاصل ضرب مجموعتي العناصر هذه ببعضها البعض هو القوة التي تمنح الدولة دورها الإقليمي الذي يضعها على طريق دور دولي يحقق مصالحها القومية والوطنية. هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا الآن! «الصباغ»: روسيا تخلصت من الثقافة «السوفيتية» ومصر تتسمك بها (الحلقة الأولى)